تعد جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية أو كوريا الشمالية إحدى أبرز المعضلات للسياسة الخارجية الأميركية، والتي تعود إلى تداعيات الحرب الكورية وتقسيم شبه الجزيرة الكورية. وقد سعت واشنطن لتحويل كوريا الجنوبية إلى قصة نجاح للرأسمالية تشكل مصدر جذب لسكان كوريا الشمالية لتحفيزهم على الاطاحة بالشيوعية، على غرار ما تم في ألمانيا. وبالرغم من الخلاف الصيني/السوفياتي مطلع الستينيات وانقسام الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية في العالم بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، احتفظت كوريا الشمالية بعلاقات قوية بموسكووبكين معاً، مما أمن لها الحماية في مواجهة تحالف مناهض شمل الولاياتالمتحدةواليابان وكوريا الجنوبية، وحلف شمال الاطلسي. كما عمدت بيونغ يانغ لتطوير قدراتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية، بدعم سوفياتي وصيني، لحماية وجودها. وبقيت العقدة الكورية الشمالية، مثلها مثل العقدة الكوبية وإن كانت اقدم منها، تشكل رقماً صعباً في السياسة الخارجية الأميركية. وتلخصت القضايا العالقة في العلاقات الأميركية/الكورية الشمالية، وعقب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي واستمرار العلاقات الوطيدة بين بكين وبيونغ يانغ وبدرجة أقل بين موسكو وبيونغ يانغ، في القلق الأميركي ازاء برنامج التسلح الكوري الشمالي، خاصة منذ دخوله مرحلة متقدمة، ومن انعكاساته الاقليمية والدولية وأبعاده العسكرية، بجانب اتهام بيونغ يانغ بدعم منظمات ارهابية، وبانتهاك حقوق الانسان داخل بلدها، بالاضافة للخوف من التهديد الكوري الشمالي لكل من كوريا الجنوبية واليابان، الأولى من خلال الأسلحة التقليدية والثانية عبر التهديد الصاروخي، والدولتان حليفتان لواشنطن. وهناك مشكلة المواطنين اليابانيين الذين تتهم طوكيو بيونغ يانغ باختطافهم وتطالب باستعادتهم وتساندها الولاياتالمتحدة. وكانت واشنطن قد وضعت كوريا الشمالية على قائمة الدول الراعية للارهاب التي تصدرها الخارجية الأميركية سنوياً حتى منتصف 2008. ومن جهة بيونغ يانغ زاد ضغط الظروف الاقتصادية عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث لم يستطع أي مصدر خارجي تغطية الاحتياجات الاقتصادية الكورية الشمالية كاملة، كما أثر الانفاق العسكري والنووي المتزايد على الموارد المتاحة للتنمية، بينما تراجعت عوائد المبيعات العسكرية الكورية الشمالية للخارج، نتيجة تراجع عدد المشترين، ولفرض الولاياتالمتحدة حصاراً قلل مقدرة بيونغ يانغ على تصدير السلاح والتكنولوجيا الحربية، كذلك برزت مشكلات واجهت السياسات الاقتصادية المتبعة في كوريا الشمالية، سواء بسبب شح الامطار أو تراجع غلال الحبوب وغيرها من السلع الزراعية، خاصة الغذائية. وعلى الجانب الآخر، بدأ الجهد الأميركي لاحتواء ما تعتبره واشنطن «الخطر» الكوري الشمالي منذ انتهاء الحرب الأولى ضد العراق عام 1991 وما تلاها من مجيء ادارة كلينتون الديموقراطية للبيت الأبيض مدركة أن مسألة أسلحة الدمار الشامل يجب معالجتها قبل ان تخرج حالات عن السيطرة، وكان المنهج المتبع التلويح بجزرة المساعدات الاقتصادية والغذائية بل وفي مجال الطاقة، بما فيها النووية، للاستخدامات السلمية، مقابل تخلي كوريا الشمالية عن ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل ووقف تصدير هذه الأسلحة والتكنولوجيا للخارج، ووقف دعم ما تعتبره واشنطن وحلفاؤها «منظمات ارهابية». وفي هذا الاطار جاءت صيغة ال «كيدو» عام 1994، أي التنمية الاقتصادية لكوريا الشمالية مقابل اجراءات تتخذها الأخيرة باتجاه تفكيك تدريجي لبرنامجها النووي. إلا أن هذه الصيغة لم تصمد طويلاً، في ظل اتهامات متبادلة بعدم الوفاء بالالتزامات. فكوريا الشمالية اتهمت اليابان بعدم توريد الماء الخفيف اللازم لتشغيل المفاعلات النووية لأغراض سلمية، واتهمت الأطراف الغربية بعدم تقديم الدعم الاقتصادي والغذائي بالحجم والانتظام المطلوبين، بينما اتهم الأميركيون وحلفاؤهم بيونغ يانغ بالمماطلة ومحاولة التنصل من التزاماتها. وسرعان ما قام كل طرف بإضافة شروط جديدة، كما اتهم الجانب الأميركي الصين، بعدم لعب دور ايجابي لتسهيل التفاوض. وعلى رغم محاولات لانقاذ اتفاق 1994، عانت الامور من الجمود، بل التراجع. وانتقل الملف مفتوحاً إلى ادارة جورج بوش الابن الجمهورية، ليبدأ فصل مختلف نوعياً. وجاء طرح اللجنة السداسية لتناول المسألة النووية في كوريا الشمالية كوسيلة لادماج كل من روسيا والصين في آلية تضم أيضاً الولاياتالمتحدةواليابان وكوريا الجنوبية، بالاضافة إلى كوريا الشمالية. وكان الهدف تفادي الخطأ السابق المتمثل في ترك روسيا والصين خارج آلية التباحث المباشر مع كوريا الشمالية وتوظيف علاقاتهما الوثيقة مع الأخيرة لضمان قبولها بالمطالب الغربية. لكن مضمون التفاوض لم يتغير: فالمعادلة ظلت اتخاذ بيونغ يانغ لخطوات باتجاه الكشف عن منشآتها النووية والاعلان عما لديها من مواد وتجهيزات ذات صلة وصولاً إلى التخلص من هذه القدرات في ظل تفتيش ورقابة دوليين، مقابل تأمين احتياجات الشمال من الطاقة والمساعدات الانسانية والغذائية والاقتصادية، ورفع اسم كوريا الشمالية من القائمة الأميركية للدول الراعية للارهاب. ومثل سابقاتها، عانت آلية المحادثات السداسية من الكر والفر، خاصة بين الطرفين الأميركي والكوري الشمالي الذي لم يثق في أي مرحلة بأن ادارة بوش الابن تخلت عن السعي لتغيير النظام السياسي للشمال. وخلال الشهور الأخيرة، سلمت بيونغ يانغ قائمة بالمنشآت النووية لديها وقامت بتدمير برج خاص بإحدى هذه المنشآت. وبالمقابل، أعلنت واشنطن رفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الراعية للارهاب. والآن من غير الواضح ماذا ستؤول إليه الأزمة في ضوء التجربة التي تمت في 5 نيسان (أبريل) 2009، والتي اعتبرتها الولاياتالمتحدةواليابان وكوريا الجنوبية تجربة إطلاق صاروخ بعيد المدى، بينما اعتبرتها كوريا الشمالية عملية وضع قمر صناعي على المدار، وفي ظل إدارة ديموقراطية جديدة في البيت الأبيض، وبعد إعلان بيونغ يانغ انسحابها من المحادثات السداسية وطرد المراقبين الدوليين والأميركيين واستئناف نشاطها النووي، وهو ما يؤثر بدوره على توازنات دقيقة مع الصين وروسيا وغيرهما. * كاتب مصري.