لا أحد يختار لحظة رحيله، لكن تاريخاً مضى باختيار فرسان ورجال خطوات تقربهم إلى الآجال، شوقاً إلى أحبة، أو بحثاً عن أمجاد تخلد ذكراهم، يكونون بها أحياء عند ربهم يرزقون، وأحياناً في وجدان الناس كذلك، يتربعون على عرش «القلوب». وسواء أكان الصحافي المكي الجميل عمر المضواحي، رحل مختاراً مثلما هو الظن بمؤمن مثله، حانت ساعة لقاء ربه، أم غدرت به المنون، مثلما فعلت بفرسان قبله، فإن الراحل ظل أقرب الأحياء إلى زمرة الأموات، إذ كان أكثر ما سخر قلمه «الذهبي»، في الدفاع عن أموات مكة قبل أحيائها. وإذا كان «المرء مع من أحب»، فإن عمر اليوم انضم إلى صحابة أخيار وتابعين أبرار، طالما جعل ذكرهم ندياً، بمداده الساحر، وب«لسان مكي مبين». وبينما كان كثير من أهالي مكة وزارها يتسابقون مثل رعيلهم الأول في خدمة الحجاج وأم القرى، وتخصيص الحبوس لها، بادر المضواحي في «حبس» نفسه مختصرة في «قلمه» على العاصمة المقدسة، فما كان مثل الصحافيين ينتظر المناسبات ورمضان والحج والمؤتمرات وسواها، بل كان هو المناسبة، ومكة دائماً هي الظرف، إن كان كتابة عن تاريخها وآثارها أم عن أحيائها وأمواتها، ومقابرها وحوانيتها، وعلمائها ووديانها. وسواء أكان الراحل في جريدة، «سين» أم في «جيم» أم في صفحات «فيسبوك» أم على مدونات العصور الخوالي، أم زقزقة «تويتر»، يبقى المقال دائماً عن مكة، والمقام يطيب لذكرها، ورواية شأن من شؤونها، فليس صحافياً يتلون بظروف الصحيفة التي يعمل بها أو حاجته إلى الوظيفة، أو خشية كسر قلمه الذي «لا يخشى في سبيل مكة لومة لائم». في التاريخ الحديث من الصحافة المكية، يصعب حتى على الصحافيين الكبار، أن يصنعوا من تاريخ قديم جداً، أو أحداث ثقافية، جرت العادة أن تكون على «الهامش»، مقامات صحافية عظمى، لولا أن المضواحي نفخت فيه مكة من روحها، فأعاد ما اندرس من معالمها وأحوالها، حاضراً أمام القراء، في حلل صحافية مبهرة، لا يقاوم فتنتها أي مهني يترأس صحيفة هنا أو هناك. ولولا أن مكة دائماً هي صاحبة الفضل على كل من تشرف بلقياها ناهيك عمن أكرم بالحياة فيها، لكان الراحل بتحويل تاريخ الكعبة المشرفة وسدنتها وبابها وجوفها ومفتاحها وحجرها ومقامها، إلى مادة صحافية تتردد في المجالس، صاحب الحظ الأوفر. غير أن الذي أدهش متابعون كثيرون لتاريخ قلم المضواحي هو هذا «الخلق المتكرر»، فلئن كانت مكة واحدة، والمقام وحيداً، والحجر الأسود هو نفسه، وكذلك المطاف وزمزم والحطيم، والركن اليماني، فإن السيد المكي منحه حب «البنية الشريفة» قدرة على تجديد ذكراها في مناسبة أو بدونها. وإذا كان المضواحي اختار أن يضيء قلمه بأنوار البيت العتيق ومتعلقاته، فإن ذلك لا يعني أنه غير حاضر في قضايا أخرى، ولكنه حتى في تلك المسائل التي يتناولها على هيئة «استراحة محارب»، يظل متكئاً على لقطات إنسانية، وإشارات مهنية «لا يعقلها إلا العالمون». وكان أبرز الأدلة على ذلك، يوم أن ذهب المتحاورون قبل نحو 10 سنين إلى المدينةالمنورة في إحدى جلسات الحوار الوطني، فيختلس الراحل دقائق من ساعات تغطية اللقاء متجولاً في أنحاء أخت مكة العظمى المدينةالمنورة، فيلقى عجوزاً أثقلتها الحاجة ودوائر الزمن، تبيع بيضاً، فيصنع منها قصة تحدث عنها القاصي والداني، ليبعث عبرها رسالة إلى المتحاورين بأن «لا يجعلوا بيضهم في سلة واحدة». وفي المدينة النبوية، لم ينس الكاتب، ساكنها عليه الصلاة والسلام وزوار مسجده الشريف، فتناول أشياء حوله وأشياء، كان آخرها حديثه عن معاناة النساء في زيارة المقام النبوي، والسلام على خير البرية. إلا أنه على رغم ذلك تبقى مكة نقطة ضعف قلمه الكبرى وشغفه الذي ظل يغسل بها قلبه ويعطر بها جرائد ومدونات ووسائل، ما كانت تمر على «الحرمين» إلا مر السحاب. غير أن حب الراحل للمدينة المقدسة، لم تمنعه الوفاء للأصول المهنية، حتى إنه، وإن كان من مناصري الابقاء على الآثار النبوية في مكة، مثل موقع المولد النبوي أو قبور أمهات المؤمنين، من مثل خديجة وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهما، إلا أنه في آخر ما كتب، لم يتردد في ذكر أقوال باحثين، ينسفون كل المشهور في مكة حول قبر السيدة خديجة، فأثبت في تقرير كتبه عن «المعلاة» التي انضم إليها أخيراً، ما قاله علامة الجزيرة حمد الجاسر، رحمه الله، عن عدم ثبوت موقع قبر خديجة تاريخياً، ولم يمنعه الانحياز إلى مكة والمشهور فيها، معالجة الجانب المهني. رحم الله عمر «كان فاروقاً صحافياً»، وقرشياً أنارت مكة قلمه، فسلام عليه يوم كتب، ويوم رحل، ويوم نبعث أجمعين.