في صبيحة عيد الأم، بعد الفرح الأكيد ولو للحظة عابرة، تذكّر النساء بمرارة أن علوم البيولوجيا والوراثة والإنجاب، بقيت طويلاً منحازة الى الذكور. ومن الأمثلة على ذلك أن مراجعة «منظمة الصحة العالمية» لما أنجز من مقررات «مؤتمر بيجين» حول المرأة، أظهرت أن الموجة الثانية من وسائط السيطرة على الإنجاب لم تلق رواجاً كبيراً في البلدان المتخلفة. مثال ذلك عدم الإقبال على حبوب «صباح اليوم التالي» أو ال«أر يو 464» RU464. إذاً، كانت ضغوط الدولة والمجتمع (بمعنى الرغبة في ضبط تزايد عدد السكان) صاحبة الكلمة الفصل في العلاقة بين المرأة والتقنية الإنجابية في بلدان العالم الثالث، ولم يكن الدافع الأساسي تَمَلّك النساء لقدرات أجسادهن أو لخياراتهن الإنسانية. يجدر التنبّه إلى أن التقنية الإنجابية التي لاحظت دوماً ضرورة السيطرة على التكاثر لدى المرأة هي تقنية ذات وجهة ذكورية أيضاً. إذ كانت النساء موضع تطبيق وسائط التقنية، مثل الحبوب واللوالب، وهنّ اللواتي تحمّلن المخاطر الناجمة عنها مثل سرطان الثدي، الالتهابات الحوضية المزمنة، الجلطة الوريدية وغيرها. في المقابل، ظل الرجل في مأمن مكين. وتدعم تقارير متنوّعة ل «منظمة الصحة العالمية» القول إن التقنية الإنجابية التي تستند إلى التحكّم في قدرات الرجل لم تلق سوى رواج جزئي. الاستنساخ ونقاشات الجينوم وحدث تحوّل ضخم في هذه الصورة عند استنساخ «دوللي» باستخدام خلايا الأنثى وبيوضها، ومن دون مساهمة من الخلايا الجنسية للذكر. أثبتت الأنثى أنها أعلى كعباً من الرجل في شأن الإنجاب، وهو أمر يزيد فرح الاحتفال بالأنثى- الأم. ولم تكن العاصفة الهائلة التي أطلقها استنساخ النعجة «دوللي» عام 1996، قد خمدت، حتى انطلق «تسونامي» علمي طال انتظاره. أشعل الاستنساخ نيراناً من النقاشات التي طاولت العلم والمعرفة والأخلاق والفلسفة والاجتماع والسياسة والقانون وغيرها. ولم تكد هذه الجمرات الحارقة أن تبرد قليلاً، حتى أعلن فريقان علميان، وفي شكل منسّق، التوصّل الى قراءة المعلومات المتضمّنة في الشيفرة الوراثية عند الإنسان، التي يشار إليها تقنياً باسم الجينوم. وفي 12 شباط (فبراير) 2001، صارت المعلومات الوراثية التي تتضمنها النواة في خلايا البشر، مكشوفة أمام عين عقل البشر. وتوّج إعلان الفريقين جهوداً انطلقت منذ عام 1990، حين أطلقت الولاياتالمتحدة مشروع الجينوم البشري، مُعلنة أنه يسعى الى قراءة المعلومات الوراثية للإنسان، التي تحملها 3 بلايين «قطعة» تتوزع على 23 كروموزوم في الحمض الوراثي («د ن أ» DNA) الموجود داخل نواة الخلية. ورصدت أميركا 3 بلايين دولار لهذا المشروع، بالتعاون مع دول مثل الاتحاد الأوروبي والبرازيل واليابان. وبعد سنتين من استنساخ «دوللي»، ظهر منافس ل «مشروع الجينوم البشري» تمثّل في شركة «سيليرا» التي يرأسها كريغ فنتر. وعبّر ظهورها عن سياقات العولمة التي جعلت من فعالية الشركات العملاقة منافساً شرساً لمؤسسات الدولة. وعمد فنتر إلى الاستفادة من معطيات ثورة المعلوماتية والاتصالات. ووظّف خبراء شركته آلات لتفكيك الشيفرة الوراثية تديرها كومبيوترات متطوّرة، فتمكنوا في زمن يسير من الوقوف على قدم المساواة مع «مشروع الجينوم البشري»، الذي ترأسه البروفسور فرانسيس كولن، وهو اختصاصي يحمل جائزة نوبل في علم الصيدلة. وشيئاً فشيئاً، ضاق الفارق بين الفريقين، على رغم أن فريق «سيليرا» انطلق بعد فريق كولن بثماني سنوات. ثم ارتأى الفريقان أن يُنسّقا جهودهما معاً، بدل الاكتفاء بالمنافسة بينهما. ونسّقا معاً الإعلان عن التوصل الى الخريطة الكاملة للجينوم البشري، على رغم أنها ضمت عملياً 90 في المئة منه. كومبيوتر الجينات ويصعب الحديث عن الجينوم من دون الإشارة الى الدور المتقدّم الذي أدّاه الرئيس الديموقراطي السابق بيل كلينتون. إذ أصرّ على إتاحة معلومات الجينوم الى الشعوب كافة، معتبراً إياه قيمة إنسانية يحق للبشر التشارك بها. وبعد عشر سنوات، أطلق رئيس ديموقراطي آخر، هو باراك أوباما، مبادرة ترمي إلى وضع معلومات الجينوم في متناول الأفراد، عبر تخفيض كلفة قراءة جينوم كل شخص، مقابل ألف دولار. وعلى رغم أنه ليس مبلغاً هيّناً تماماً، يبقى أقلّ بملايين المرات (حرفياً) من الثلاثة بلايين دولار التي تكلّفتها قراءة الجينوم الأول. ويلاحظ أن الدول العربية لم تشارك في مشروع الجينوم، والأدهى أنها لا تستفيد من إتاحة المعلومات عنه، على رغم توفراها مجاناً على الإنترنت. وفي لقاء سابق ل «الحياة» مع البروفسور إلياس زرهوني، وهو مبعوث أوباما علمياً الى شمال أفريقيا والخليج العربي، أوضح أن الدول العربية مجتمعة تحتل ذيل القائمة في الموقع المخصص للمعلومات عن الجينوم. يبدو أمراً غريباً أن يحجم العرب عن فهم معلومات الوراثة علمياً، فيما يخضعون السياسة إلى «قوانينها»، أم أن العكس هو المستغرب؟ ولا داعي لمقارنة هذا الأمر مع إسرائيل مثلاً، لأن النتيجة محسومة سلفاً. في الغرب، يرى كثيرون أن انطلاق مشروع العقلانية التنويري ترافق مع صعود التشريح، الذي رسم جسد الإنسان على هيئة آلة فائقة التنظيم. ومع تزايد المعلومات عن عمل أعضاء الجسم ووظائفه، ارتسم الجسد البشري على صورة الآلة الميكانيكية المعقّدة والمنظمّة والمترابطة، ما يشبه الطائرة المتطوّرة أو مركبة الفضاء. ومع الجينوم، برزت أهمية المعلومات باعتبارها الركن الأساسي في الجسد. إذ حمل الجينوم رسالة مفادها أن تركيب الإنسان تشريحياً وعمل وظيفته (وهي مكوّنات الآلة الميكانيكية في الجسم)، إنما تدار بالمعلومات التي يحملها الحمض الوراثي. وبقول آخر، أعاد الجينوم رسم جسد الإنسان ليتخذ هيئة كومبيوتر بيولوجي ضخم. وهناك بين علماء المعلوماتية من يدعون الى الاستفادة من تركيب الجينوم، بمعنى استخدامها ككومبيوتر ضخم.