هل نسعى إلى تحقيق النمو الاقتصادي على حساب الإنسان العربي وبيئته؟ هل نكتفي ببعض السياسات لتقييد قوى السوق في مقابل بعض التقدم على طريق حماية البيئة، وبالتالي تحسين نوعية حياة الإنسان؟ وهل ندمج البعد الاجتماعي في التخطيط للتنمية؟ هل نسمح للحاجات الأمنية بأن تشكل مزيداً من الضغوط لاستنزاف الموارد الطبيعية، أم نقوم بنهضة شاملة، ونقدم نموذجاً جديداً للتنمية القابلة للاستدامة والقائمة على حماية البيئة، وبالتالي تحقيق رفاهية الإنسان العربي من خلال الحوار والمشاركة والتكامل والتعاون؟ تحمل هذه الأسئلة سيناريوات يطرحها «تقرير توقعات البيئة للمنطقة العربية» الذي أطلق أخيراً، في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة. وجاء التقرير بعد خمس سنوات من تكليف مجلس وزراء البيئة العرب، برنامج الأممالمتحدة للبيئة وعدد من المنظمات المعنية. لقد باتت هذه السيناريوات أمام صُنّاع القرار في العالم العربي الآن، وعليهم الاختيار، بل يتوجب على الجميع الاختيار. تقويم متكامل للبيئة العربية ووصف المدير التنفيذي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة أشم شتينر، وهو أيضاً وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، هذا التقرير بأنه أول تقويم بيئي متكامل وشامل للمنطقة العربية. وأشار الى ان التقرير يحدد التحديات، والفرص المتاحة في ظل الزيادة السكانية المطردة التي من المتوقع أن تؤدي إلى ارتفاع تعداد سكان المنطقة من 334 مليون نسمة عام 2008 إلى 586 مليون نسمة بحلول عام 2050. وشكر شتينر الأمانة الفنية لمجلس الوزراء العرب المعنيين بشؤون البيئة، وكذلك «مركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا» («سيداري») على شراكته المهمة لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة في إعداد هذا التقرير. وكذلك وجّه الشكر لبعض المراكز الأخرى التي تعاونت في إصدار التقرير، منها «جامعة الخليج العربي»، «المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة»، حكومة النرويج، و «مبادرة أبو ظبي العالمية للبيانات البيئية». وفي المناسبة عينها، أكّد الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أهمية دور مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، وثمّن الجهود التي بذلها المجلس في إصدار عدد من القرارات التي تصب في مصلحة تحسين نوعية الحياة، ودفع التنمية في المنطقة العربية، وتأكيد ضرورة اتباع نهج حياة مستدام في المنطقة العربية. ويأتي هذا التقرير لتقديم تقويم وتوقعات إقليمية حديثة وشاملة موثقة علمياً، تعكس التفاعل القائم بين البيئة والمجتمع. ولعل بعض الأرقام التي ذكرها التقرير تعكس حال البيئة في العالم العربي. إذ رصد وجود 83 مليون عربي يفتقدون مياه شرب آمنة، ويحتاج 96 مليون نسمة آخرين إلى خدمات الصرف الصحي، فيما يقع نصيب الفرد عربياً من المياه تحت حد الفقر المائي، كما لا يتجاوز نصيبه من الغابات ربع هكتار. ويضاف الى ذلك تدهور قرابة 68 في المئة من مساحة الأراضي في العالم العربي، الذي يحتوي 1084 نوعاً من الحيوانات المهدّدة بالانقراض. وتستورد المنطقة العربية أكثر من 50 في المئة من حاجاتها غذائياً، ويعاني 20 في المئة من أراضي العالم العربي من التصحر. ويتوقع ان يبلغ إجمالي المساحة المتصحرة 88 في المئة. وفي حديث الى «الحياة»، قال الدكتور عادل فريد عبدالقادر المنسق الإقليمي لإدارة التقويم والإنذار المبكر في المكتب الإقليمي لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة لغرب آسيا، الذي أشرف على التقرير: «هذا أول تقرير رسمي عربي لتوقعات البيئة للمنطقة العربية. وأُعِدّ بناء على طلب من مجلس الوزراء العرب والمسؤولين عن البيئة. وتوصل الى نتائج ستطرح على المجلس نفسه، وبالتالي سيكون هناك التزام سياسي بقبوله والتطلع إلى كيفية تنفيذ السياسات البديلة التي يطرحها. وبحسب عبدالقادر، يرفع التقرير شعار «البيئة من أجل التنمية ورفاهية الإنسان»، ما يجب أن ينعكس تحسّناً واقعياً في سياسات التنمية وقراراتها، وبالتالي يجب ان ينعكس إيجابياً على البيئة، ثم على حياة الإنسان. وتناول عبدالقادر آليات التنفيذ، فقال: «ان التقرير وضع ما يسمى بدائل السياسات، وطرح تصوراً لإمكانات التطبيق، ولكنه لا يضع خططاً تفصيلية. وأمام صانع القرار الآن سياسات يمكن ترجمتها إلى خطوات تنفيذية على الأرض، بما يوائم كل دولة وأولوياتها». سيناريوات البيئة وإنقاذها تحدث عبدالقادر أيضاً عن الفترة الزمنية التي يضعها التقرير لهذه التوقعات البيئية، قائلاً: «هذا التقرير يتميز بأنه نظر إلى الماضي وحلّل التغيرات البيئية التي حدثت منذ مؤتمر استوكهولم 1972، ثم حلّل الوضع الراهن، واستشرف المستقبل من خلال أربعة سيناريوات مختلفة توضح لصانع القرار أكثر من صورة مستقبلية يمكن أن تؤول إليها الأوضاع البيئية في المنطقة... نحن نتحدث في إطار زمني يتراوح بين 15 و 50 سنة مقبلة. ولدينا أولاً «سيناريو السوق»، وبموجبه تطغى أبعاد العولمة وآليات السوق، بحيث يُنظر إلى استغلال الموارد الطبيعية وتأمين اليد العاملة الرخيصة والإنتاج الكبير، باعتبارها صيغة ضرورية لخفض الأسعار وتعزيز المنافسة في الأسواق. ولكن ذلك يؤدي إلى الضغط على الموارد الطبيعية، كما يسبب ضغوطاً اجتماعية واقتصادية أيضاً. وهناك «سيناريو الإصلاح»، ويكون للبيئة فيه أولوية أعلى من تلك التي تحظى بها في سيناريو السوق. ولكن تظل ضغوط سياسات الاستثمار مرتفعة. وهناك أيضاً «سيناريو الانكفاء» الذي يركز على الحاجات الأمنية والضغوط الخارجية التي تكون لها مصلحة الموارد الاستراتيجية في المنطقة العربية، وهو يعد سيناريو متطرفاً، بالمقارنة مع «سيناريو السوق». ويدعى السيناريو الرابع «سيناريو النهضة». ويتضمن اتخاذ خطوات جوهرية لتحسين أسلوب الحوكمة، ومراعاة تناغم السياسات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية كحل لتحديات الاستدامة البيئية في المنطقة العربية. وفي هذا السيناريو، تكون المكاسب الاقتصادية معتدلة مقارنة بسيناريو «السوق والإصلاح». وتناول عبدالقادر مدى اهتمام التقرير بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لقضايا البيئة والتنمية، فقال: «تعتمد المنهجية التي اتّبعها التقرير على تحليل عميق للدوافع الاقتصادية والاجتماعية وربطها بالتغير بيئياً. كيف تؤثر الصناعة والزراعة والسياحة والنشاطات الاجتماعية المختلفة على البيئة؟ كيف تتأثر صحة الإنسان بالنُظُم الإيكولوجية؟ هل توجد سياسات تتعامل مع هذه القضايا؟ إذا وجدت، فهل هي فعّالة؟ إذا لم تكن موجودة، ما السياسات البديلة؟ ويقدّم التقرير سياسات بديلة. لقد فشلت سياسات موجودة منذ ثلاثين عاماً، وبالتالي علينا أن نتركها على الفور، خصوصاً أنه استجدت قضايا بيئية أخرى. وإذا كانت هناك سياسات نجحت، فلنتبناها ونطورها وننقلها إلى قطاعات أخرى». وكذلك عرض عبدالقادر أهم القضايا المستجدة التي ركّز عليها التقرير، فقال: «ركزنا على قضايا الوقود الحيوي والتكنولوجيا الحيوية والأمن الغذائي وإدارة المواد الكيماوية... لم نتطرق مباشرة الى مواضيع مثل المخلفات الإلكترونية، على رغم كونها قضية بيئية عالمية مستجدة. في المقابل، اهتم التقرير بالمُخلفات عموماً، مع التشديد على المخلفات الخطيرة التي أشار إليها كجزء من هذه المخلفات. يمكن أن نلحق بالتقرير بعض الموضوعات الأخرى. ومن المفترض أيضاً أن يصدر التقرير بصفة دورية، ما يفسح مجالاً للتجديد فيه. ومن المتوقع ان يتخذ مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن البيئة، قراراً بمدى دورية الإصدار. ومن الممكن إصدار تقارير متخصصة منفصلة تتناول بعض الموضوعات. نفكّر الآن مثلاً في إعداد تقرير لتقويم هشاشة مصادر الموارد المائية العذبة وعلاقة هذا بالتغير المناخي». نقاط ساخنة أشار عبدالقادر الى الطريقة التي تعامل بها التقرير مع بعض المناطق الساخنة في العالم العربي من ناحية المعلومات وتوصيف الأوضاع البيئية. ويشمل تعبير «المناطق الساخنة» العراق والسودان والصومال وفلسطين، إضافة الى ما حدث في لبنان. ويعبّر المصطلح عن جزء من التحديات التي تواجه العالم العربي، وقد ورد في التقرير وصف عن الأوضاع في هذه المناطق تحت مسمى «الأمن والبيئة». وكذلك لاحظ التقرير وجود تفاوتات متنوّعة في المنطقة العربية، وبالتالي عرضت التصوّرات عِبر مستويين. تناول الأول القضايا المشتركة بيئياً، وركّز الثاني على بعض القضايا الخاصة مثل المياه الجوفية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، وموضوع المياه السطحية التي يأتي 60 في المئة منها من خارج الوطن العربي. إذاً، اهتمّ التقرير بالقضايا المشتركة الشاملة، لكنه ركّز أيضاً على القضايا تحت الإقليمية التي تخص بلداً أو مجموعة محدّدة من البلدان. وأخيراً، تحدث عبدالقادر عن مصادر المعلومات التي تعامل معها التقرير. وبيّن أن مُعدي التقرير اعتمدوا على تقارير عن أحوال البيئة وطنياً، وبعض الاحصاءات الرسمية والدراسات العلمية، مُشدّداً على حاجة الدول العربية إلى تطوير نُظُم المعلومات لديها والتعامل بمزيد من الشفافية والتعاون مع بعضها بعضاً. وخلص الى الحضّ على ضرورة الانتباه إلى أهمية المشاركة الجماهيرية، ودور الجمعيات الأهلية، ودور المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية في قضايا البيئة والتنمية.