عندما أعلن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو ان القدس بقسميها الغربي والشرقي، هي عاصمة إسرائيل الموحدة، ردت عليه الدول العربية بإعلان «قمة سرت» قمة دعم صمود القدس. وأكد قادة الدول العربية في البيان الختامي، اعتماد خطة عمل تتضمن إجراءات سياسية وقانونية تهدف الى تعطيل مساعي إسرائيل لضم القدسالشرقية، وخصصوا مبلغ نصف بليون دولار كبادرة أولى لمواجهة حملة التهويد والاستيطان. وكانت إسرائيل قد مهدت لعملية ضم القدس أثناء نقل المراكز الحكومية من تل أبيب الى القدس عام 1950. ثم شكلت جبهة داخل الكونغرس الأميركي عام 1996 من أجل الضغط على الإدارة بقصد إرغامها على نقل السفارة الاميركية الى القسم الغربي من القدس. وتولى يومها عملية تسويق هذا المشروع المريب السناتور بوب دول (جمهوري) والسناتور باتريك مونيهان (ديموقراطي). وقدم الشيخان مشروع قانون يربط اعتمادات اللجنة الخارجية بموعد بدء العمل في مبنى السفارة في القدس. وخلال التصويت نال المشروع تأييد 62 سناتوراً، الأمر الذي أثار قلق وزير الخارجية وارن كريستوفر، لذلك عارضه بشدة لأنه يلغي دوره كوسيط محايد يفترض فيه ألا ينحاز لإسرائيل. عقب صدور الاعتراض الرسمي على لسان الوزير كريستوفر، عقد السناتور جون كيل مؤتمراً صحافياً هدد فيه بتجميد مخصصات الخارجية إذا لم يتم نقل السفارة الأميركية الى القدس. وقال ان الوضع النهائي لعاصمة إسرائيل لن يكون مطروحاً على طاولة المفاوضات. والولايات المتحدة ليست محايدة في هذا الموضوع، بل هي مسؤولة عن تنفيذ حقوق اليهود في وطنهم القومي التاريخي. الوزير الفلسطيني في حينه، المشرف على ملف القدس فيصل الحسيني، أحال المسألة الى مدير الأوقاف عدنان الحسيني. وبعد مراجعة مستفيضة أثبت الحسيني بالوثائق ان الأرض التي ستصادرها واشنطن تعود ملكيتها الى الأوقاف الإسلامية بعدما تنازل عنها الشيخ محمد الخالدي قبل مئتي سنة. ومع ان القانون الإسرائيلي يعتبر الأراضي المتنازع عليها ملكاً لدائرة الأراضي الإسرائيلية، إلا أن الإدارة الأميركية رفضت الدخول في مشاكل التملك. منذ عام 1996 وإسرائيل تتعامل مع القدسالشرقية كأنها محمية خاضعة عملياً لسلطة رئيس بلدية القدسالغربية. وقد استخدمت قواتها العسكرية وابتزازها الإعلامي لتكريس نفوذها داخل الضفة الغربيةوالقدسالشرقية عبر هويتها الجديدة المُسماة «دولة اليهود». ولكن الفلسطينيين رفضوا الاعتراف بنظام «الابرتهايد» خوفاً من إلغاء حق العودة للاجئي 1948 (خمسة ملايين نسمة) وطرد الذين يعيشون في إسرائيل (مليون ومئتي ألف نسمة)، ولكن اعتراض السلطة الفلسطينية لم يمنع إسرائيل من مواصلة تغيير الأمر الواقع، وتوسيع حجم الاستيطان داخل جدار الفصل وخارجه. مع وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض، شعر نتانياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان، بأن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي في جامعة القاهرة، كان يمثل بداية الخلاف مع الحليفة الكبرى. ذلك ان الدعوة لوقف بناء المستوطنات والعودة الى حدود 1967، اعتبرها نتانياهو مطلباً لا يقل خطورة عن دعوة ايزنهاور عام 1956 لإخلاء سيناء من القوات الإسرائيلية. وفي لقائه مع الوزيرة هيلاري كلينتون قال لها نظيرها ليبرمان إن الضغط الدولي على بلاده يحاكي الضغط الذي مارسته فرنسا وبريطانيا على تشيكوسلوفاكيا للتنازل عن مقاطعة «السودات» بهدف إرضاء هتلر. ولكن ذلك التنازل، في نظره، مهد الطريق لانفجار الحرب العالمية الثانية! يستدل من المواقف المتشنجة التي تعمق هوة الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة، ان مطالب أوباما لن تجد رد الفعل المستحب لدى نتانياهو وحكومته المتزمتة، خصوصاً بعدما أصرّ الوزير ليبرمان على مقاطعة البيت الأبيض الى حين تليين مواقفه حيال إسرائيل. وهذا يعني أن الأزمة ستتفاقم ما لم يتدخل الكونغرس لمعالجتها على نحو مرضٍ للفريقين. أو ما لم يعلن نتانياهو عن قبوله المطلب المتعلق بوقف البناء في القدسالشرقية، مثلما أوحى بأنه قد يرضى بتعليق البناء في الضفة الغربية لمدة عشرة أشهر. ويؤكد المراقبون ان الحكومة الائتلافية سترفض خطة الرئيس السابق كلينتون للدولتين، التي اعتمدها أوباما صيغة للحل النهائي. وفي هذا السياق أيضاً، أعلن ليبرمان ان الحكومة لن تجمد البناء في القدس فقط، انما ستعود الى استئناف البناء في الضفة عقب انتهاء فترة اختبار النيات. خلاصة الأمر ان الحكومة الإسرائيلية رمت الكرة في ملعب قادة الدول العربية الذين اجتمعوا في ليبيا تحت شعار: «قمة دعم صمود القدس»، وترجموا دعمهم بتخصيص نصف بليون دولار لم يصل منها الى الجامعة العربية دولار واحد حتى الآن. كما ان نصّ البيان الغامض لم يشر الى الجهة المولجة بعمليات الانفاق: هل هي السلطة الفلسطينية وحدها؟ أم ان هناك هيئات ومؤسسات أهلية يمكن ان تشارك في دعم الصمود الشعبي؟! في مطلق الأحوال، تبقى عملية الإسراع في تهويد القدس قائمة إذا استمرت إسرائيل في ضم القسم الشرقي، أو إذا اكتفت واشنطن والرباعية والجامعة العربية بإصدار بيانات الشجب والاستنكار، وهنا تبرز الحاجة الى رسم استراتيجية مضادة يمكن ان تقرها قمة عربية طارئة بالتعاون مع مختلف المؤسسات والهيئات والاتحادات الإسلامية والمسيحية في العالم. ومثل هذا التجمع العالمي يمكن ان يحدّ من الغطرسة الإسرائيلية المتعاظمة التي يشكو منها البابا بنيديكتوس السادس عشر من خلال الحملة التي تتعرض لها الكنيسة الكاثوليكية. وهذا لا يعني ان فضيحة استغلال الأطفال جنسياً يجب السكوت عنها... بل يعني ان ربط هذه المشكلة بمعاداة السامية، هو أمر هادف يُراد من ورائه إدانة الحبر الأعظم لأنه تجرأ وأعرب عن حزنه العميق إزاء الوضع المؤلم في القدس، مشدداً على السلام في مدينة السلام التي تمثل الوطن الروحي لنصف سكان الأرض. أثناء وجوده على رأس الحكومة سابقاً، حاول نتانياهو فتح نفق في أسفل المسجد الأقصى المبارك، وكان ذلك نزولاً عند رغبة «رابطة القدس الإسرائيلية» التي طالبت بضمان حق اليهود في الصلاة داخل المسجد الأقصى وفتح نفق يربط حائط البراق بشارع المجاهدين القريب من باب الاسباط (أحد أبواب المسجد الأقصى) مقابل السماح للأوقاف بافتتاح المصلى المرواني في أوقات معينة. الشهر الماضي أصدرت حكومة نتانياهو قراراً بإضافة الحرم الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح الى المواقع الدينية اليهودية. ورأى الفلسطينيون في هذه الخطوة استكمالاً لخطة إسرائيلية تقضي بمصادرة المقدسات الإسلامية والمسيحية (150 موقعاً) واستغلالها في مشاريع سياحية يُقدر لها أن تجتذب عشرة ملايين سائح في السنة. وهذا ما أعلنه رئيس بلدية القدسالغربية نير بركان الشهر الماضي في لندن، أثناء إلقائه محاضرة في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) حول مشاريعه الجديدة. وأكد بركان أن خط السكة الحديد الذي يجمع شطري القدس سيدشن آخر هذه السنة. في تبريره لإعلان «أورشليم» عاصمة موحدة أبدية لدولة اليهود، ادعى نتانياهو ان القدس الموحدة هي ملك اليهود منذ ثلاث آلاف سنة. وكان من الطبيعي ان تكبر هذه الأكذوبة الخرافية التي جاءت في التوراة على ألسنة كهنة بابل الذين وضعوا خمسة مجلدات يعود تاريخها الى القرن السادس قبل المسيح، وقلّد اليهود في ادعاءاتهم هذه وزير الإعلام النازي غوبلز صاحب نظرية: «أكذب... ثم أكذب... ثم أكذب، فلا بد أن يصدق الناس كذبة واحدة!». والمؤسف ان هذه الأكذوبة وجدت من يصدقها لكثرة تكرارها في وسائل الإعلام، والشاهد على ذلك الحديث الذي جرى بين الملك فيصل بن عبدالعزيز والرئيس الفرنسي شارل ديغول، قبل بضعة أيام من حرب 1967. افتتح ديغول المحادثات بالقول: يا جلالة الملك، يجب الاعتراف بالأمر الواقع. ان إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً. أجابه الملك فيصل: استغرب أن يصدر هذا الكلام عن شخصية تاريخية علمتنا كيف نغيّر الأمر الواقع، ولو قبلت أنت وزعماء المقاومة الفرنسية بالأمر الواقع النازي، لما استردت فرنسا سيادتها وحريتها. وعلى الفور استند ديغول في حديثه الى منطق اليهود الذين يزعمون بأن لهم في فلسطين حقاً تاريخياً، وعاد يقول: ولكن لليهود الحق التاريخي في العودة الى أرضهم الموعودة منذ ثلاثة آلاف سنة! عندئذ أجاب العاهل السعودي بسؤال محرج: ولماذا نقبل بحق اليهود فقط في ضرورة استرجاع التاريخ القديم؟ هل يحق للعرب اليوم استرجاع الأندلس وغالبية الدول الأفريقية مع كل ما كانت تمثله إمبراطورية الفتح الإسلامي من فتوحات؟ على كل حال، ان الحفريات في القدس لم تكتشف حجراً واحداً يدل على وجود مملكة داوود. والأمر ذاته تقريباً حدث مع الرئيس حافظ الأسد خلال زيارته الأخيرة موسكو مطلع التسعينات، يوم اجتمع بغورباتشوف الذي أبلغه عن السماح لمليون يهودي روسي بالهجرة الى إسرائيل. وبرر غورباتشوف قراره بالقول «انهم يعودون الى أرضهم التاريخية». وأجابه الأسد بالقول: «ان موسكو الصديقة ترسل الى خصومنا مليون محارب آخر. ان يهود روسيا هم من سلالة يهود الخزر. واستناداً الى المعلومات التاريخية فإن شعب الخزر اعتنق الديانة اليهودية سنة 741 ميلادية تخلصاً من تهديد الإمبراطورية العربية الإسلامية في الجنوب... وضغط الإمبراطورية البيزنطية من الغرب». يبقى ان نستشهد بالكلام الذي كتبه المستشار النمسوي اليهودي الأصل برونو كرايسكي، الذي قال: «تقوم الصهيونية على أوهام تاريخية تدعمها آراء خاطئة بأن كل اليهود قادمون من فلسطين، وهذا بالتأكيد من صنع الحركة الصهيونية التي اختلقت مختلف الادعاءات لتبرير وجودها». ومن المؤكد ان نتانياهو يقوم بدور المثل الحي لهذه الحركة، خصوصاً ان والده يدعى بن زيون، أي ابن صهيون! * كاتب وصحافي لبناني.