تصل مطار الخرطوم فجر افتتاح مهرجان البقعة المسرحي العاشر. تبدو لك العاصمة العريقة غريبة وجافة، بل غارقة في النوم. فالمطار هو الواجهة للأولى التي تعكس مزاج وجوّ أي بلد وافد إليه. تُعلمك إحداهنّ عبر مكبّر الصوت عن موعد انطلاق رحلة ما، بصوت ناعس يكاد ينقطع. تُخطئ برقم الرحلة، ثم تعيد جملتها مصحّحة الرقم. الوقت هنا يتمخطر رويداً رويداً كحلزونة تحاول التقدّم بحذر. حروف اسمك تتهادى على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، كقطرات ماء تسقط من حنفية عتيقة. الشرطي بالزيّ الأزرق يخال نفسه يصطاد سمكة على ضفاف النيل الأزرق، مستسلماً لارتخاء يديه اللتين تقعان على لوحة المفاتيح. يتنفّسُ الصعداء بين طباعة حرف وحرف آخر. فتحمد الله لأن اسمك من 3 أحرف واسم عائلتك من أربعة. قد تتفهّم أن البلاد بالكاد خرجت من أزماتها السياسية والحربية المتلاحقة وأن هناك أولويات في سياسة الدولة، وبالتالي استحداث مطار متطوّر وأنيق ينتمي الى القرن 21، يكاد يكون في المراتب الأخيرة. لكنك لا تفهم سبب عدم الدقة في التفتيش، وانتشار الغبار الكثيف في كل مكان، وبعض الروائح غير الذكية في بعض الأماكن، ولا حتى قدم أجهزة استلام الحقائب اللعينة. ورغم الحزن الظاهر على وجوه الموظفين والناس، تغضّ النظر وتعد نفسك بعدم المفاجأة من المظهر العام للبلاد التي تتربّع على عرش أكبر دول أفريقيا والعالم العربي مساحة، وتحتلّ مساحتها المرتبة العاشرة في العالم. المعلومات التي تجدها على موقع «ويكيبيديا» تجعلك تخال العاصمة الخرطوم موطناً للأشجار والنبات والخضرة والسمك، ففيها يلتقي النيلان الأزرق والأبيض. لا تتوقّع أن بلداً غنياً بالموارد النفطية والحيوانية والمائية والزراعية، معظم طرقاته خصوصاً الفرعية منها ترابية ووعرة، وأسواقه شعبية ضيّقة وغير صحيّة يفرش تجارها بضائعهم على الأرض وتكشفها أشعة الشمس الحارقة. ملاحظات ظاهرية تزيدها سلبية حالات الفقر وغلاء المعيشة التي لا يتوقف الناس عن الشكوى منها. فتسأل نفسك هل يُعقل أن تكون البلاد على هذه الحال وينتظم فيها مهرجان مسرحي للسنة العاشرة على التوالي؟ وهل هناك مسرح أصلاً؟ ومن أين يأتي المهرجان بالتمويل والبلاد غارقة بتراب الصحراء الجافة؟ وهل للمسرح جمهور يدفع ثمن التذاكر للدخول الى المسرح في حين يفوق سعر كيلوغرام اللحمة السبعة دولارات؟ تغيب الشمس فتتّضح معالم المدينة! تراها في الظلمة أجمل حيث تنام الشمس المستبدّة ويهرّب النيل نسيماً يداعب جسدك ويحرّره من الحرارة المرتفعة طيلة النهار. فتنتعش وتتّجه نحو عاصمة المهدي الأبية أمدرمان. هنا الحياة أكثر حيوية. المدينة التي تبعد 10 دقائق في السيارة عن الخرطوم العاصمة، تزدحم بالناس والمارة والباعة وأكشاك بيع السمك النهري الشهيّ. كورنيش النيل في عاصمة المقاومة، ما زال بتولاً لم تغدر به يد الانسان. وحدها «ستّات الشاي» بطاولاتهنّ الصغيرة يفرشن بعض المساحات الصغيرة على ضفافه، يعرض على المارة كوب قهوة بالزنجبيل أو شاياً بالنعناع. عيد وطنيّ قبل أن تصل الى المسرح القومي المواجه للنيل حيث افتتاح مهرجان البقعة، تتالى لافتات المسارح وصالات الحفلات العامة المتلألئة بالأضواء المزركشة، وتصدح منها أصوات الإيقاعات الموسيقية السودانية المتنوعة. الشارع يوحي باحتفال وطني. سيارة «أمجاد» (ميكروباص) تروح و»ركشة» (عربة صغيرة مفتوحة تتّسع لشخصين فقط) تجيء محمّلة بالسيدات والأطفال والرجال بأبهى حللهم وأزيائهم التلقليدية. على باب المسرح تستقبلك نسوة يبعن الفستق والبزر والفوشار في أكياس صغيرة بحجم اليد. وتدعوك عايشة وصديقتها فاطمة الى كوب شاي وصحن من الزلابية (عجين مقلي مغطّس بالسكر الناعم)، من دون السؤال عن الثمن. «كل سنة وإنت طيّب» الجملة الأكثر سماعاً هنا في باحة المهرجان حيث يقف مؤسّس مسرح البقعة الممثل والمخرج علي مهدي، يستقبل الكبير والصغير والشخصيات الديبلوماسية والسياسية والثقافية. ضحكة الرجل بزيّه الصوفيّ الأبيض تملأ المكان. فهو الرائد الذي لا يهدأ متنقلاً من نشاط ثقافي الى سياسي الى اجتماعي، حاملاً همّ المسرح أينما سافر. هنا الناس في عيد حقيقي. عيد يُنسيك انطباعك الذي شعرت به لحظة دخولك الخرطوم الملقّبة ب «عاصمة الاستعمار» تاريخياً حيث سكنها البريطانيون. هنا أمدرمان حيث تختفي الوجوه الحزينة لتحلّ مكانها وجوه متعطّشة للفن وتحديداً للمسرح. وجوه احتشدت في الهواء الطلق حيث المسرح الأكبر في الولاية الذي غصّ بأكثر من 1500 شخص... فالسودان يحتفي من خلال مهرجان البقعة بثلاث مناسبات، هي مرور مئة عام على أول عرض مسرحي على يد رائد تعليم المرأة في السودان بابكر بدري، ومرور 30 عاماً على تأسيس المسرح القومي، و10 سنوات على مهرجان البقعة. وأسرّ وزير الثقافة في ولاية الخرطوم سيّد هارون أن 2010 عام هو المسرح في السودان حيث تنوي الحكومة بناء وتأهيل عشرات المسارح الجديدة ودعم هذا القطاع لتنشيطه. ومن هنا اختار المهرجان الممثل والمخرج والكاتب المسرحي محمد شريف علي كشخصية العام، وكرّمه لدوره الرائد في تأسيس المسرح السوداني وتطويره منذ العام 1957. وبما أن الدورة الحالية من المهرجان حملت عنوان «مسرح السلام»، كان الافتتاح بعرض أميركي بعنوان «قصبّ السكر» لمارك جوزيف تناول معاناة ثلاثة أجيال من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية. أما الختام فكان مع عرض تشادي لعبدالله عبد الكريم بعنوان «في الثامنة مساء الجمعة». ولهذين العرضين دلالة سياسية كبيرة، فهي المرة الأولى التي تستضيف فيها الخشبة السودانية مسرحيتين من أميركا وتشاد. فالعلاقات الديبلوماسية والسياسية مشوّهة بين بلاد العم سام وبلاد الطيّب صالح. أما تشاد فقرّر علي مهدي استضافتها في السودان بعد تبريد الأجواء السياسية بين البلدين أخيراً، لقناعته وإيمانه بأن «الفن يلعب دوراً ديبلوماسياً قد يُصلح صراعاً ويبني جسوراً بين الشعوب». وكان اسم تشاد أُدرج في أب (أغسطس) الماضي أي قبل الاتفاق السياسي بين البلدين واعادة تطبيع العلاقات. والمهرجان الذي اقتصر دوره على عرض أعمال مسرحية من ولاية الخرطوم، توسّع سنة بعد سنة ليشمل عروضاً من الولايات السودانية كافة، ثم عرضاً عربياً واحداً وعرضاً أفريقياً. وابتداءاً من هذه الدورة سيستضيف سنوياً عرضاً إضافياً من دول أوروبا وأميركا. ذلك لأن مؤسّس مهرجان البقعة ومشروع «المسرح في مناطق الصراع» علي مهدي مصرّ على دور الخشبة في تفاعل الحضارات وتواصل الشعوب. كما يرى أن السودانيين سواء المواطنين منهم أو الفنانين يحتاجون الى مشاهدة عروض خارجية للاطلاع وتبادل الخبرات حول ما توصّل إليه المسرح في العالم. وفي هذا السياق، قدّمت فرقة مسرح البقعة عرضين في واشنطن وبلتمور في تموز (يوليو) الماضي، وشاركت في ورشة عمل في نيويورك، رغم مواجهة أعضاءها صعوبات جمة في الحصول على التأشيرة. كما ستقدّم الفرقة عرضاً في مركز جون كينيدي في واشنطن قريباً. «الأرض» تفوز بالجائزة الكبرى ومن بين العروض السودانية العشرة التي قدّمت في المهرجان، إضافة الى العرضين التشادي والمصري، منحت لجنة التحكيم جائزة التأليف للكاتب حسبو محمد عبد الله عن نص «هو»، وجائزة الاخراج مناصفة بين محمد نعيم سعد عن عرض «الأرض»، والمصري سلامة امام عن «وجود». وذهبت جائزة أفضل ممثل الى ايهاب بلاش وسحر ابراهيم عن دورهما في «الارض». ومنحت جائزة الموسيقى والمؤثرات للعرض المصري «وجود»، وجائزة الصورة المشهدية لمحمد كودي عن عرض «بيضة ام كتيكت». أما جائزة لجنة التحكيم المؤلفة من المسرحيين السودانيين فيصل أحمد سعد، وسامية عبد الله، ومحمد سيد أحمد، وعادل كبيدة، وجعفر سعيد الريح، إضافة الى السعودي ابراهيم العسيري، فأعطيت للمخرج مصطفى عبد الكريم عن عرض «بيضة ام كتيكت». بينما حاز العرض التشادي «في الثامنة مساء الجمعة» على جائزة رئيس المسرح الوطني ومسرح البقعة. وحصل عرض «الشوارع مليئة بالملائكة» للمخرج محمد أحمد الشاعر على جائزة النقاد. أما الجائزة الكبرى فكانت من نصيب عرض «الارض» للمخرج محمد نعيم سعد ومصمّ الرقص جمعة بن. وستنشر «الحياة» تقارير حول العروض المشاركة وحال المسرح السوداني في حلقات لاحقة.