طفل الى الأبد اعترف آدم سيزمان بمشاعر دافئة تجاه موضوعه، لكنه حاول الاحتفاظ في قلبه بقطعة الثلج التي رآها غراهام غرين ضرورية للكاتب. وهو فعل. في «جون لي كاريه: السيرة» الصادرة عن بلومزبري، بريطانيا، يبدو الكاتب هشاً ومنحطاً في آن. لماذا لا يزال لي كاريه الثري، تساءل سيزمان، يكتب وهو في الرابعة والثمانين؟ إنها مسألة حب، غضب وخوف حيال الأب الذي أثار عبادته وخزيه في الوقت نفسه. أجرى سيزمان خمسين مقابلة مع ديفيد كورنويل الذي قدّمه الى أسرته والمعنيين بحياته. حين استقبلته زوجة الكاتب الثانية جين للمرة الأولى، قادته الى الغرفة التي حفظ فيها أوراقه. أحسّ سيزمان بظلّ عند الباب، ورأى كورنويل يحدّق فيه فوق نظارتين ركّزهما أسفل أنفه. «غريب جداً وجودك هنا، آدم، تنقّب في رأسي»، قال. تحطّم قلبه في الخامسة حين هجرت والدته أوليف الأسرة يأساً من خيانات زوجها واحتياله المتكرر. ادّخر وشقيقه توني قطع النقود الصغيرة في علبة بسكويت خبآها في فجوة في جذع الشجرة، لكي يجمعا تعرفة الباص ويذهبان للبحث عن أمهما. لكنه الأب من ينافس الابن على بطولة السيرة. احتال على المسنّات وجرّدهن من تعويضاتهن، وأرسل طفله ديفيد ليطمئنهن كاذباً الى أنه سيعيد المال. يطل روني في السيرة بين الحين والآخر ليطلب المال لمشاريع وهمية، أو لإخراجه من السجن في فيينا وغيرها بكفالة. كان في السابعة عشرة، خجولاً وحساساً، يدرس الألمانية في برن، ويقصد كنيسة الإنكليز ليتخفّف من ثقل وحدته. تعرّف في عيد الميلاد الى زوجين من الطبقة العليا يعملان في السفارة البريطانية. دعواه الى كأس شيري اليوم التالي، وسأله ساندي إذا كان يمانع حضور اجتماعات الجماعات اليسارية وإعطاءه أسماء البريطانيين، التشيخيين والهنغاريين الحاضرين. لا. أحب المراهق إرضاء ساندي ووندي، وفرح بفرصة السفر الى جنيف والجلوس على مقعد في حديقة عامة وهو يحمل كتاب شعر لغوته، في انتظار مرور غريب يسأله ما إذا كان رأى كلبه الضائع. بعد أكثر من أربعين عاماً، استعاد شبابه في «جاسوس كامل» الذي رآه فيليب روث أفضل رواية إنكليزية بعد الحرب. في مقدمة السيرة، يشبّه سيزمان كورنويل الذي اعتمد «جون لي كاريه» اسماً روائياً، بألفرد هيتشكوك الذي غُضّ النظر عن فنه الرفيع خلال حياته، لأنه أخطأ بكونه شعبياً. تابع كورنويل التجسس على أصدقائه وغيرهم في جامعة أكسفورد، حيث انضم الى النادي الشيوعي. لم يندم، وقال أنه كان ينبغي تنظيف أنابيب التصريف وإن كان ذلك مقززاً أخلاقياً. عمل في الاستخبارات الداخلية التي رآها عالم رجال الشرطة الكولونياليين السابقين والأكاديميين والمحامين والمبشرين ومبتدئات المجتمع الفاشلين. انتقل الى الاستخبارات الخارجية «الأكثر أناقة ولصوصية وعزاً»، وشمل تدريبه القتال بالسكين. في 2008، كشف ل «ذا صانداي تايمز» أنه فكر بالانشقاق والذهاب الى الاتحاد السوفياتي. في رسالة لاحقة الى الصحيفة، أوضح أن كثرة استراق السمع الى الآخرين تدفع الجاسوس الى التماهي معهم ومشاركتهم حياتهم. نشر أول كتبه «نداء للموتى» في 1961، واستقال بعد نجاح «الجاسوس العائد الى الحظيرة» المعروف ب «الجاسوس الذي أتى من الصقيع». دخلت كتبه مع هذه الرواية وبعدها لائحة الأكثر مبيعاً في العالم، وحفلت بالغدر، الخيانة، الكذب والأقنعة. قال أنه كاذب، وُلد للكذب، دُرّب عليه في مؤسسة تكذب لتكسب قوتها، ومارسه في الكتابة. برع في الخيانة أيضاً، وكرّرها في تعطّشه الى التجربة والعاطفة. في منتصف الستينات، ارتبط بعلاقة طويلة مع زوجة صديقه المفضّل جيمس كيناواي، ولم يجد صعوبة في طلب الصفح منه حين اكتشف أمرهما. بات الرجلان صديقين سابقين. ألهمته العلاقة روايته غير الجاسوسية «العاشق الساذج والعاطفي» التي طعنها النقاد بلا هوادة. واجهت زوجته الثانية العملية خياناته بمحاولة حمايته من نتائجها. في رسالة الى شقيقه، استرجع كورنويل هجر والدته وستة عشر عاماً بلا عناق إثره: «كنا أطفالاً مجمّدين وسنبقى كذلك أبداً». يرى سيزمان أن رد فعل الطفل كان السعي الى حب الجميع، وأنه لا يزال يكتب في أواخر عمره لأنه لا يزال غاضباً من رحيل والدته. يقول أن لي كاريه يشعر بالاغتراب في مجتمعه على رغم دراسته وعمله في مؤسسات راسخة فيه، وأن الحس بالهامشية هو ما دفعه الى الكتابة. الحب الذي بات هورموناً بطل الرواية الثالثة عشرة لسيباستيان فوكس، يشبه والده. في ربيع 1943، صدّ الكابتن بيتر فوكس هجوم فرقة هرمان غورينغ المظلية على تلة قرب مجاز الباب في تونس. صمد رجاله الأقل عدداً حتى الفجر، ثم شنّوا هجوماً مضاداً ظافراً نال عنه الكابتن وسام «الصليب الحربي» المميز. انتقل الضابط الذي «بدا مثل شاعر لكنه كان لا بأس به» وفق رئيسه، الى إيطاليا، وشارك في معركة أنزيو الضارية حيث جرح في رأسه. روبرت هندريكس، بطل «حيث كان قلبي يخفق» الصادرة عن «هاتشنسن»، طبيب نفسي ناجح وكاتب قاتل في أنزيو وشمال أفريقيا، وكوفئ أيضاً ب «الصليب الحربي». في عقده السادس، يعيش في ثمانينات القرن الماضي وحيداً مع كلبه ماكس. يداوي معذبي الروح لكن حياته جدباء، يائسة. يعود من رحلة الى نيويورك ليجد رسالة تنتظره. كان ألكسندر بيريرا عالم أعصاب مسنّاً، متقاعداً، قرأ كتاباً لهندريكس عن المعاملة اللاإنسانية للمرضى العقليين، وقاتل مع والده في الحرب العالمية الأولى. كان روبرت في الثانية حين قُتل أبوه ولم يعرفه. يقصد الجزيرة الصغيرة التي يملكها الدكتور ألكسندر بيريرا في جنوبفرنسا، ويعرض هذا عليه نشر أعماله بعد وفاته. يتحدثان عن الذاكرة والمرض العقلي، فيسترجع هندريكس أهوال حربه ويبوح. جُرح حين حاول الوصول ببطولة رعناء الى الخندق الألماني، وأرسل الى نابولي حيث التقى لويزا. كانت حب حياته، وحين خانته كره البشر وبات الحب خللاً هورمونياً. هل يتخلّص روبرت من شلله بعد لقائه بزميل ينتظره الموت خلف دقيقة، ساعة، أو يوم؟ بيريرا يفتح له باباً في آخر الرحلة القصيرة، وينثر القليل من الضوء على ظلامه البارد. حتى الكلمة الأخيرة في سيرته الذاتية إمباك وكوستا وجوائز أخرى صغيرة وترشيح على القائمة القصيرة لبوكر. هاجس الاختبار جلب لأندرو ميلر القراء والثروة والشهرة، فبقي بعيداً من التعريف التقليدي للرواية، لكن بطلته الأخيرة تعصى على الفهم حتى آخر كلمة في «العبور» الصادرة عن «سبتر». تفتن مود من يقابلها ب «نظرتها البنيّة الفظة»، لكنها تبدو بلا إحساس جسدياً ونفسياً إلا حين يتعلّق الأمر بالإبحار. تقع يوماً من متن اليخت المرتفع على الرصيف، فيصعق الناظرون من الموت الذي سيكونون شهوداً غير راغبين عليه، لكنها تقف وتهرول بصمت. يحبها تيم الأرستقراطي، الثرثار الذي يعرض حياته وأحاسيسه للعالم بلا تردد، وتبقى جامدة، بليدة فتثير الشك في كونها مصابة بالتوحّد. يحنو تيم ويحكي ويسأل، ويتلقى أجوبة من كلمة واحدة. يحب عقلها العلمي، جسدها القوي ونظرتها البعيدة، ولا يملّ من الطبخ وممارسة اليوغا والعزف على غيتاره حين تذهب الى عملها في مصنع الأدوية. يتزوجان ويعيشان في بيت صغير أهداهما إياه أهله، وتعود الى عملها بعد شهر من الإنجاب. يهتم تيم بالطفل ويتساءل مع أسرته ثم أمهات الأطفال في المدرسة ما إذا كانت زوجته أماً صالحة أو أماً وحسب. نشأ في أسرة ثرية تحب الأطفال والكلاب واللوحات والكأس، ولم يجد غايته وسطها. لم يجدها مع شريكة حياته أيضاً. كتبت مود شعارها وشماً باللاتينية على جسدها: «كل لنفسه». هو أيضاً كان نرجسياً، قادراً على خداع نفسه والآخرين، وحين يتسبّب حادث مأسوي بانفصاله عن زوجته، يختفي في منتصف الرواية ويعطي ميلر الصوت لمود التي لا تحب الكلام ولا تجيده. تبحر عبر الأطلسي، ولا تنعم عليها وحدتها بفكرة واحدة عميقة. تتقيأ، تزعجها خصوصية الجسم الأنثوي، وتفصّل تقنيات الإبحار. يتحطّم قاربها، ويجرفها الموج الى شاطئ ساكن، غريب حيث تعيد بناءه.