الفتى والبحر ترك الجامعة وركب السفينة، حيث وجد الأخوّة الذكورية التي هجس بها طوال حياته. كانت ثلاثة أشهر على متن الباخرة التجارية «أس أس وستمينستر» زاداً كافياً لباكورته «البحر أخي» التي كتبها في العشرين ولم يعرضها على الأرجح على الناشرين. بعد نحو سبعين عاماً تنشر «بنغوين كلاسيكس» رواية جاك كيرواك، الذي سينتظر مجده الآتي مع «على الطريق» خمسة عشر عاماً. اكتُشفت بين أوراقه في 1992، فهل استحقت النشر حقاً؟ رأتها «بنغوين» استبطاناً فريداً لكيرواك الفتى وتشكُّل نبوغه، في حين قال الكاتب نفسه إنها كانت مجرّد سخام. العنوان الذي اختارته الدار «البحر أخي: الرواية الضائعة» يحاول بلا خجل استغلال الهالة الرومنطيقية للكاتب، الذي عاش على الأرض غائباً عنها. شرب حتى الموت عن سبعة وأربعين عاماً في 1969، وفي صورة له يمسك الكأس كأنه يطلق النار على نفسه، أو كأنه يشرب من أذنه. «البحر أخي» رواية صغيرة تنشرها «بنغوين كلاسيكس» مع قصص بوليسية ومسرحية ويوميات لكيرواك، إضافة الى رسائله إلى صديق الطفولة سيباستيان سامباس. شكّلا شلّة «البروميثيين»، نسبة الى سارق النار من الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية، وتوفي سامباس شاباً بعد إصابته في معركة أنزيو-إيطاليا، في الحرب العالمية الثانية. تروي «البحر أخي» الصداقة بين بيل إفرهارت، بروفسور الأدب الإنكليزي الساخط في جامعة يال، وَوِزلي مارتن، ابن السابعة والعشرين الذي أمضى عقداً يطوف بلاده مذ ترك الجامعة. يلتقيان في نيويورك خلال انهماك الاثنين بالشرب، ويقنع مارتن صديقه الجديد بالتوجه معه الى بوسطن ليبحرا الى غرينلاند. العنوان للبحر لكنه لا يظهر إلا في آخر الرواية المكرّسة لتجوال الرجلين بين الحانات من نيويورك الى بوسطن. رآها كيرواك ثورة على المجتمع بإحباطه وعذاباته وافتقاره الى المساواة، فجعلها رواية مراهق متمرد نموذجية. يحب مارتن البحر حباً غريباً موحشاً، في حين يهرب اليه ابن الثانية والثلاثين إفرهارت، من الناس، لكنه لا يجد فيه إلا وحدة رهيبة. يصوِّر أخوّة الذكور على السفينة، حيث «يجد الرجل العادل مكانه الصحيح (...) كان الإبحار طريقة حياة، وعنى المساواة والمشاركة والتعاون والسلام للجماعة». حين تبدأ السفينة رحلتها ينظر الشاب الأصغر سناً الى رفيقه، «في تلك اللمحة السريعة من عيني وِزلي القاتمتين، عرف بيل أن الرجل كان يقرأ أفكاره ويجيب عليها بنعم، أحبّ البحر وراقبه. نعم، كان البحر قاتماً وهائلاً. نعم، عرف وِزلي ذلك، وفهم بيل». هذه العلاقة الوثيقة تنتهي بخيانة سال بارادايز «أخاه» المفقود ورفيق السفر الداعر دين موريارتي في «على الطريق». اعتمد في الرواية التي صنعت اسمه تيار الوعي وأنهاها في ثلاثة أسابيع، فقال ترومان كابوتي: «هذه ليست كتابة بل طباعة على الآلة الكاتبة». ولئن كانت «البحر أخي» محاولة أولى مبعثرة وخرقاء، فإنها تبقى أكثر انضباطاً من «على الطريق»، الفائقة الحيوية المتفلتة. تبقى أيضاً ذات صوت شعري واثق وألِق. عندما تغادر السفينة المرفأ تطلق «صفرة رحيل، رنيناً عميقاً، طويلاً، مرهِقاً تردّد صداه في الهدوء الصباحي فوق أسطح الرصيف». و«شمالاً، في الأثر الذي خلّفته المدمّرة في المياه، امتدّ البحر حقلاً هائجاً ازداد قتاماً مع امتزاجه بالسماء الخفيضة. تربّصت المدمّرة». كعك السعادة هل نحتاج الى سيرة أخرى عن فرجينيا وولف لا تقول جديداً؟ تركّز ألكزاندرا هاريس في كتابها الصادر عن «تيمز وهدسن»، على المرح الوولفي الذي يضحكها في القطار والصف الدراسي ويثير استغراب الركاب والطلاب. هاريس أستاذة في جامعة ليفربول، واكتفت بحياة من مئة وثمانين صفحة تدين بالكثير الى سيرة هارميوني لي التي نشرت في 1997. شكّت وولف في جودة أعمالها، وشلّها النقد والتوقعات. كان والدها ستيفن كاتباً وناقداً معروفاً، وجلست والدتها الجميلة لفنّاني حركة ما قبل رفاييل. جلب كل منهما الى الزواج زواجاً سابقاً وولداً على الأقل، وتردّد أن أخاً لفرجينيا من أمها تحرّش بها. لم يُعرف مرضها بالضبط، لكنها كانت طفلة شديدة التوتر. عند وفاة والدتها، وهي في الواحدة والعشرين، تسارع نبضها وطفحت طاقتها، فنصحها الأطباء بالراحة. تروي كيف بدا وجه الأم المجثاة غائراً، نائياً، متجهّماً. كيف أحسّت ببرودة الحديد حين قبّلتها. وكيف تذكّرتها كلما لمست الحديد بعد ذلك. تبعت الوفاة ثلاثة أعوام من الجنون اضطرت الأب الى الاستعانة بممرضات أطعمنها بالقوة أحياناً. أحبّت قدرتها على إخافة الناس وإلهامهم، ورأت أنها ستبقى عذراء، عمة وخالة، ومؤلفة. يعتقد البعض أنها بقيت فعلاً عذراء حتى بعد زواجها من الكاتب لينارد وولف، الذي صارحته بأنها أحبّته لكنها لم تُجذَب إليه جسدياً. تقول هاريس إن وولف تخيلت الحياة رصيفاً ضيقاً فوق هاوية، وكان عليها الانتباه دوماً لئلا تقع. خشيت قبل انتحارها عودة المرض، ومصيرها وزوجها اليهودي إذا احتل النازيون إنكلترا. وضعت حجارة في جيوبها ومشت في نهر أوز الى أن ابتلعها. قالت إن القلم والمحبرة جذباها كما يجذب مشروب الجين البعض. أرادت أن يكون لحياتها شكل كما في رواياتها ، وشعرت في الثلاثين أنها تجذب في اتجاهات مختلفة، وتقوم بالخيارات التي ستحدّدها في منتصف العمر. يبدو تيار الوعي لدى وولف ثقيلاً للبعض، لكن أسلوبها الفريد تميّز باعتماد التفاصيل الصغيرة التي لمعت أحياناً كالماس في كومة الغبار. اهتمّت بالتفاصيل حياةً وأدباً. أحبّت ركوب الباص وفتح الرسائل والأيام التي كتبت فيها بسلام. فتنتها سرعة السعادة ومفاجأتها، ضجتها وهدوءها، وطرق استخدامها بمكر ضد الألم. «أنا أسعد النساء في إنكلترا»، قالت للينارد في 1931 «لا لشيء إلا لأننا تناولنا الكعك الطري الساخن في الفطور». راقها الذهاب الى رودميل، منزلها الريفي، مساء جمعة حار وتناول رقاق اللحم البارد، والجلوس على الشرفة و «تدخين سيجار مع بوم أو اثنين». حين أرسلت صديقتها الأرستقراطية فيتا ساكفيل-وست، نحوَ نصف كيلوغرام من الزبدة من مزرعتها طلبت منها أن تهنئ البقر بالنيابة عنها. صورة في بداية السنة الدراسية في «ليتل روك سنترال هاي سكول» في 1957، وقف مصوّر شاب ينتظر التاريخ. كانت المدرسة قرّرت استقبال تسعة تلامذة سود بعدما حكم مجلس تعليمي أن فصل العرقين غير دستوري. رفض عنصريون بيض القرار وأحاطوا بمبنى المدرسة. أرسلت عناصر من الحرس الوطني لتوفير سلامة التلامذة ظاهراً، لكن التعليمات الحقيقية نصّت على عدم دخول «الزنوج» المبنى. حين حاولت إحدى التلامذة السود اليزابث إكفورد، دخولَ المدرسة، منعها الجمهور الأبيض، ووقفت طالبة في الخامسة عشرة تصرخ وتنفث سمومها. «إليزابث وهيزل: امرأتان من ليتل روك» الصادر عن مطبعة يال لديفيد مارغوليك يستعيد ذلك الرابع المشمس من أيلول ببشاعته وذيوله. كانت إليزابث إكفورد تلميذة هادئة مجتهدة، واستدارت لتعود الى محطة الباص حين هتف الحشد ضدها، وطالب بعضهم بقتلها. التقط ويل كاونتس صورته الشهيرة بينما كانت أليزابث تتجه الى المحطة وتدير ظهرها للجمع الذي برزت فيه هيزل برايان بوجه قبّحته الكراهية. أغضبت الصورة الليبراليين والعنصريين معاً. قال رجل قصد أطفاله المدرسة إنه لا يريد زنوجاً معهم فيها، لكن التلامذة أساؤوا الى تلك الفتاة. دعاة الحقوق المدنية في المقابل تجاوزوا المهانة ليحرّضوا ويجذبوا مناصرين من السود والبيض. يتبع «إليزابث وهيزل» الفتاتين بعد الصورة السامة. كانت هيزل مراهقة بعيدة من السياسة وهمّها الأول الفتيان. لكنها تأثرت بسهولة بآراء الآخرين، وانضمّت الى الحشد حباً بالاستعراض من دون أن ينفي ذلك عنصرية محتملة لديها. تركت «ليتل روك سنترال هاي سكول» لخوف ذويها على سلامتها، وكانت أماً في العشرين حين بدأت تراجع وتندم وتقرّر الاتصال بإليزابث لتعتذر. صمدت هذه سنة كاملة في «ليتل روك» وتحمّلت المزيد من الإساءة والترهيب. وضعت دبابيس في كتبها كي تصد الهجمات في ممرات الثانوية، لكن المهانة نشبت عميقاً في نفسها منذ اليوم الأول. باتت نكدة وحاولت الانتحار مراراً في الجامعة، وشخّصت حالها باكتئاب يلي صدمة كبيرة. كان بيل كلينتن، ابن ليتل روك، آركنسو، رئيساً حين اجتمعت المرأتان لالتقاط صورة في الذكرى الأربعين للحدث أمام مبنى المدرسة. بقيتا على صلة بعد الاجتماع الأخرق، وشاركتا معاً في معارض أزهار ومؤتمرات عن لئم الجروح العنصرية. قدّمت المرأتان في عهد كلينتن بالذات مجازاً سياسياً مدوّياً عن التقدم الذي حقّقته البلاد منذ الخمسينات. لكنهما لم تكونا الملاك وملكة الشر كما أوحت الصورة بالأبيض والأسود. حرصتا أعواماً على اللقاء ثم باعد التوتر بينهما. رأت إليزابث أن هيزل لم تعتذر تماماً عن الماضي وأن دوافعها سطحية، وردّت هذه باتهامها بأن همها الانتقام لا المصالحة. مأساة الصورة، يقول مارغوليك، إنها سجنت المرأتين في مناخها السام الى الأبد. يظهرهما كما هما، امرأتين بعيوب ومزايا كغيرهما، وقعتا في شرك لحظة تاريخية ولم تتجاوزاها.