«مأساة ثانية» يعيشها أطفال المهاجرين الأفارقة في ولايات الجزائر، فمنذ توافد آلاف منهم بطريقة سرية وفوضوية إلى البلاد، لا حظ لهم في التعليم ولا أثر للمواليد الجدد في سجل الحالة المدنية، ولا خريطة طريق للتكفّل بهم كأبناء لاجئين. تتسع شوارع الجزائر العاصمة وأزقتها للاجئين من بلدان القارة السمراء، فلا تعترضهم دوريات الأمن. لكن مدارسها وسجلات الأحوال الشخصية لا تتسع إلا للمحظوظين ممن دخلوا وفق الإجراءات القانونية المنصوص عليها. وبالنسبة لمحمد كاديديا المهاجر من بلدة كايس في مالي، فيتحدّث عن رحلة الموت الأولى في اجتيازه في ربيع 2013، الصحراء الكبرى هرباً من شبح الفقر والتردّي الأمني برفقة زوجته وولديه (5 و7 سنوات)، قبل أن يحط رحاله في شمال العاصمة، و «ينصب» كوخاً من الصفيح أسفل جسر، ومع أنه يعيش من عرق جبينه إذ يعمل متنقلاً بين ورش البناء من دون تأمين صحي لتوفير قوت لعائلته، إلا أن همه الأكبر، وفق تعبيره، يتلخّص في هاجس «الولادة بلا هوية» لمولوده الجديد المنتظر، إذ تشرف قابلة أفريقية تسكن غير بعيد من كوخه على عملية الوضع سراً لعشرات الأمهات في المنطقة، خوفاً من أن تعتقلهن مصالح الأمن وتعيدهن مع عائلاتهن إلى بلدانهن بسبب الهجرة غير الشرعية. التسّول لا التعليم إتها هواجس حرمت أفراد هذه العائلات من تلقي العلاج في المؤسسات الاستشفائية أو التسجيل في الحالة المدنية، وهي إجراءات تتطلب وثائق ثبوتية مثل بطاقة الهوية وجواز السفر المتضمن ختم دخول من أحد المنافذ الحدودية أو عقد الزواج. ولا تختلف حالة كاديديا كثيراً عن أقرانه من أبناء اللاجئين ذوي البشرة السمراء، سواء من ساحل العاج أو بنينوالنيجر والسنغال وبوركينافاسو وتشاد، الذين جازفوا بحياتهم للوصول إلى الجزائر، لتردي الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في بلدانهم. وتفضّل غالبيتهم امتهان التسول برفقة صغارهم في القطارات ومحطات الباصات وعلى جنبات الطريق السريع. ومنذ أن قررت وزارة الداخلية في آذار (مارس) 2012، وقف اتفاقية ترحيل المهاجرين الأفارقة السريين إلى بلدانهم بسبب الحرب في مالي، على خلفية اندلاع اضطرابات أمنية في شمال البلاد المتاخم للحدود الجنوبية، قبل استئناف عملية ترحيل النيجريين حصراً بداية العام الحالي، أبلغت السلطات الرسمية مصالح الحالة المدنية في مختلف البلديات بقرار تسجيل الأجانب في سجلات الميلاد شرط وجودهم على الأراضي الجزائرية بإثبات قانوني (ختم يثبت تاريخ دخولهم من أحد المنافذ الحدودية الرسمية)، كما أن تسجيل المواليد الجدد يتطلّب إصدار وثيقة طبية تثبت سلامة الولادة التي لا تُمنح إلا في المراكز الاستشفائية الحكومية أو الخاصة المرخّص لها بإجراء عمليات الإنجاب. وينبّه حقوقيون إلى معاناة 6 آلاف طفل أفريقي في الجزائر. وأستناداً إلى إحصاء الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، يبلغ عدد المهاجرين الأفارقة الذين تسللوا من الجنوب (من ماليوالنيجر) 50 ألف مهاجر من ضمنهم 6 آلاف طفل، على رغم ترحيل مئات من النيجريين في إطار الاتفاقية التي أبرمت مع حكومة نيامي. ويشير التقرير الحقوقي إلى أن غالبية العائلات الأفريقية تعيش معاناة إنسانية حادة، وتتمثل في امتهان التسول طريقة حياة وكسباً للعيش، مناصفة مع العائلات السورية النازحة. غير أن الفرق الوحيد يكمن في اختلاف طريقة التعامل التي تتمثّل في التعاطف، وتقديم المجتمع المدني مختلف أشكال الدعم للمهاجرين السوريين، في حين يتعرّض الأفارقة لسوء معاملة وتمييز عنصري. ويتذمر المواطنون لتوجسهم من الأمراض والأوبئة، التي قد يحملها الأفارقة، وشغلهم الأماكن العامة باتخاذهم محطات القطار والباصات وأرصفة الطرق مأوى لهم، ناهيك عن تخوفهم من نقل الأمراض المعدية على حد وصف التقرير. «تمييز» رسمي ولا تعد مسألة عدم التحاق أبناء النازحين بالمدارس مقلقة بالنسبة للأفارقة الممتهني التسول، إنما الأمر ذو أهمية لأولئك الذين قررت الحكومة الجزائرية القبول بتشغيلهم في مشاريع البناء والزراعة، بسبب نقص اليد العاملة المحلية المؤهلة، ما يشعرهم ب «تمييز» في التعامل مع ملف المهاجرين، بعد تبرير وزارة التربية أخيراً أن عدم اتخاذ إجراءات لمصلحة الأطفال الأفارقة بالنظر إلى أنهم مهاجرون غير شرعيين وموقتون، كونهم يدخلون إلى الأراضي الجزائرية بطرق غير شرعية. وأوضحت أن حالتهم مخالفة لما يعيشه اللاجئون السوريون الذين تشهد بلدهم حرباً، ما يجعل الوزارة ملزمة بالتكفّل بأطفال العائلات التي استنجدت بالجزائر (حوالى ألفي طفل). ولفتت إلى أن إقامة الأطفال الأفارقة في الجزائر ظرفية، وهناك اتفاقيات مع رؤساء بلدانهم لإعادتهم إليها على غرار ما تم مع النيجر التي طلبت من الحكومة الجزائرية تسهيل إعادة مواطنيها إلى بلدهم الأصلي. ويشير الهلال الأحمر الجزائري إلى غياب أقسام خاصة للأطفال الأفارقة في المدارس الجزائرية لمتابعة تعليمهم، عازياً السبب الرئيس إلى «اختلاف اللهجة والديانة ما بين الجزائر والبلدان الأفريقية»، كاشفاً عن توفير مراكز إيواء خاصة بهم، بيدَ أن غالبيتهم ترفض المكوث والاستقرار فيها بسبب طبيعتهم المعيشية واختيارهم التجوال في الشوارع والتسوّل، لا سيما في المدن الكبرى. وإن لم تجد الحكومة الجزائرية حلاً منصفاً للأطفال الأفارقة، فإن مستقبلهم التعليمي يبقى مجهولاً، حتى وإن أعيدوا إلى بلدانهم التي ستطالب بشهادة ميلاد مستخرجة من سفاراتها من أجل تسجيلهم في مؤسساتها التعليمية. وستشرع السلطات قريباً في عملية الترحيل الثانية لمئات المهاجرين من النيجر، ممن لا يتمتعون بإقامة قانونية وبينهم نساء وأطفال. وكانت العملية الأولى شهدت إعادة حوالى 3 آلاف إلى بلادهم. كما سيرحّل لاحقاً مهاجرون سريون من مالي في إطار اتفاقية بين حكومتي البلدين. ووفقاً لتقديرات رسمية، بلغت أعباء الإيواء والترحيل 100 مليون دولار.