عفواً يا سادة لا بد أن أتحدث، ولا بد أن تسمعوني وتقرأوني وتستوعبوا كلماتي الغاضبة. تحدثتم كثيراً كثيراً عن عقوق الأبناء، ووضعتم القوانين والإجراءات التي تسارع لمعاقبة العاقين من دون أن يكون هناك توصيف لمعنى «العاق والعاقة»، فبإمكان أي أب وأي أم التقدم برفع دعوى عقوق على أبنائهم، لأنهم عاجزون عن إدخالهم مستشفيات علاج الإدمان أو المصحات النفسية، وبدلاً أن يعالج المريض يسجن ويخرج أكثر شراسة وعداء لأهله وللمجتمع الذي لم يكلف خاطره بدراسة وضعه من جميع الجوانب، وسارع إلى وصمه بالعقوق بمجرد بلاغ ونصيحة. إذا وقف بجانب أمه المطلقة «لوّح الأب بدعوى العقوق ليتركها وحيدة»، وإذا صمم سارع لسجنه «حتى تضطر الأم للتنازل»، نعم هكذا نلعب بمستقبل وأحساسيس ومشاعر أبنائنا، ثم نستغرب لو مضى الزمن سريعاً «ولقينا منهم ما يتناسب مع ما لاقوه منا من عنف ودمار وتهديد»! قبل شهور عدة تقدمت أم ببلاغ ضد ولدها الذي يهددها بالقتل ويتلفظ عليها، وكانت النتيجة أن تم توقيف الابن، وقبل أن يرحل إلى السجن، قام بشنق نفسه وانتحر، وأجزم بأن الابن كان مريضاً نفسياً أو متعاطياً للمخدرات. ذهب الابن تاركاً في قلب أمه لوعة وحسرة وشعوراً بالذنب والعجز والكره الشديد لمن نصحها برفع الدعوى. لماذا لا تتم دراسة الدعوى قبل اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى انتحار مريض نفسي؟ أين ذهب الاختصاصيون؟ طالبنا ولمرات عدة بضرورة وجود الاختصاصيين والاختصاصيات الاجتماعيات والأطباء النفسيين والطبيبات النفسيات في المحاكم، ليس من الصواب الحكم على شخص من دون دراسة بيئته الاجتماعية وحاله النفسية، خصوصاً في مثل هذه القضايا المهمة. كتبت ذات يوم عن شخص قضى في السجن 9 سنوات كاملة بتهمة العقوق، لم يزره والده في سجنه خلالها، ومات هناك ربما كمداً وغيظاً واستغراباً من دنيا ومجتمع لم يسهم في حل مشكلاته النفسية والاجتماعية ولم يرحم أخطاءه، بل سارع بإبعاده حتى مات. واليوم يُرسل لي ويهاتفني أحد الشباب الصغار (19 عاماً)، طالباً مني التدخل لأن والده سجنه مرتين ولمدة ستة شهور في كل مرة لا تفصل بينهما إلا شهور عدة بعدما وصفه بأنه عاق، وتم إيداعه الإصلاحية في مكة وخرج منها رافضاً الرجوع لمنزل والده الذي لم يسكن فيه ككل الأبناء لأنه كان يسكن في ملحق مع بعض العمال منذ أن كان عمره 9 سنوات لم يشعر يوماً بحنان الأب ولا بمعنى البيت والأسرة. وبعد خروجه من الإصلاحية رفض الأب تسليمه شهادته أو بطاقة أحواله، ليتمكّن من إكمال دراسته وهو الذي لم يتبق له سوى عام واحد ويحمل الشهادة الثانوية. بل وهدد إخوانه الكبار بعدم مساعدته، ملوحاً بدعوى العقوق حتى وهم رجال في الخمسين والأربعين من العمر. كل ما أطلبه من المسؤولين الذين لم يألوا جهداً لمعرفة مشكلات المجتمع الحقيقية، دراسة أوضاع المتهمين بالعقوق، ومساعدة هذا الشاب وغيره بإكمال تعليمه، بإعطائه صور طبق الأصل من شهادته، وتدبير مقر لسكن آمن، حتى يتمكّن من شق طريقه في الحياة وحيداً تحت نظر مجتمع لا يدفعه دفعاً للسراب ولا للهروب، مجتمع يسمع اليوم صوت استغاثته ويترجمها، فلربما كانت صرخة أخيرة مدوية قبل السقوط. [email protected]