حين يعيش أي بلد خضّات أمنية وسياسية متلاحقة، تكون النتيجة البديهية أن يعيش حالة من الشلل في مختلف الجوانب الحياتية وأن ينصرف المواطنون لتأمين حمايتهم الذاتية بالطرق الممكنة ويسعون لتلافي التواجد في أماكن عامة معرّضة في أي لحظة لمشكلة أمنية. ولا نقصد هنا بالخضّات الأمنية مسلسل الانفجارات الذي عاد بقوة إلى لبنان فحسب، بل حتّى مشكلة الفلتان الأمني التي كانت آخر تجلياتها وقوع ستة قتلى مدنيين وعنصرين من استخبارات الجيش في ملهى ليلي بعد مداهمته لتوقيف مطلوبين بتهمة المخدرات والدعارة. ولكن التوقعات المنطقية تسقط في لبنان، فكلّما زاد الفلتان الأمني وتعزز الشعور بالاحتقان من واقع الانفجارات والأخطار المحيطة بكل مواطن، انعكس ذلك مزيداً من الطلب على السهر الليلي وكل ما يمكن أن يحقق الترفيه عن الذات، حتّى ولو كانت هذه السهرات ستكلّف ربع الراتب الشهري أو حتى نصفه في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة أيضاً، والتي تنصهر بالواقع الأمني لتكون الأجواء فعلاً ملبّدة بالسواد. نسهر لننسى البترون، جبيل، جونية، الجميزة، السوديكو، مار مخايل، جل الديب، الحمرا... كلّها مناطق باتت عناوين للسهر في لبنان، ولا يمكن حتّى التفريق بين منتصف الأسبوع أو نهايته، فالدخول إلى أي نادٍ ليلي أو حتّى مطعم يتطلّب الحجز المسبق مع إمكان الرفض بسبب قدرة الاستيعاب القصوى. وتنضم إلى هذه المناطق أماكن أخرى تعود إلى عالم السهر اليوم بعد انقطاع، خصوصاً وسط مدينة بيروت الذي عاش فترة من العزلة، لكن في الفترة الأخيرة عاد النشاط إليه تدريجاً فقط في الليل. ومن يقضي ليلة واحدة في أحد النوادي الليلية، لا يمكن إلا أن يتساءل عن هذا التناقض الذي يعيشه اللبناني بين نهاره المكدّس بالخوف والقلق والأزمة المعيشية وليله المليء بالنشاط والحيوية. إلا أنّ التحدث إلى الساهرين يعيدنا إلى عالم الواقع، فنادراً من يسهر فقط كنشاط مميز يقوم به أسبوعياً، إنما تحوّل السهر إلى وسيلة لتفجير مشاعر الغضب والحزن. ففي النوادي الليلية المتنوعة بفئاتها ينزع اللبنانيون همومهم ويعودون إلى طبيعتهم التي يفقدونها نهاراً أي عشق الحياة والتعلّق بها. ولا شك أن القائمين على النوادي الليلية يدركون حاجة اللبنانيين لهذه المساحة اليومية بعيداً من الضغوط الحياتية، لذلك يستمرون في ابتداع أساليب الجذب من استضافة مغنين إلى مشغّلي موسيقى وحتّى راقصات يكسرن الروتين اليومي. ويلفت مدير نادٍ ليلي في منطقة الجميزة إلى أنّه في كل مرة يقع هناك هزّة أمنية، يكون هناك تخوف من إلغاء الحجوزات والوقوع في خسائر، لكن المفاجأة تكون بتضاعف الحجوزات والوصول إلى حدّ عدم القدرة على استيعاب الساهرين. وكما يقول: «لا أحد يسأل عن وضع أمني، الكل يفتّش فقط عن كرسي في نادٍ ليلي للترفيه عن النفس». وأكثر ما يثير الإعجاب، أنّ أشخاصاً يُعرف عنهم وجود خلافات بينهم لأسباب سياسية أو طائفية تراهم جالسين حول طاولة واحدة ليلاً متناسين الأحقاد التي يتبادلونها يومياً. كسر القيود وتجد المحللة النفسية ميلاني عبود أنّ هذه الظاهرة طبيعية جداً ويمكن تصنيفها ضمن إطار البحث عن فسحة من الحرية والحاجة لكسر المخاوف الأمنية والقيود التي تأسر اللبنانيين في حياتهم اليومية. فكلّما شعر الفرد بتهميشه ضمن مجتمعه أو بأنّ حياته في خطر، اتجه نحو المتعة والفرح واللهو لكي يتخلّص من الألم الذي يشعر به بسبب واقعه الاجتماعي. وعن فوائد السهر وسلبياته، تلفت عبود إلى أنّ هناك دراسات عالمية متناقضة حول الموضوع. فمن الناحية السلبية، يمكن ملاحظة تأثير السهر على ضعف الأداء الوظيفي والقدرة الإنتاجية مع ارتباط السهر المستمر بمشكلات صحية ونفسية. لكن من الناحية الإيجابية، يمكن تصوّر مدى الاحتقان الذي سيشعر به اللبناني إذا كان ليله ونهاره، ففي ظل استمرار سوء الأوضاع الأمنية والسياسية يمكن للسهر والترفيه عن الذات أن يخفف من وطأة الواقع من دون أن يكون حلاً لأي مشكلة. أياً يكن الثمن ومن الظواهر التي تسترعي الانتباه أيضاً في عالم السهر الليلي في لبنان، هي قدرة اللبناني على تأمين تكاليف الدخول إلى الملاهي على رغم الشكاوى اليومية من ضعف الرواتب وعدم القدرة على تأمين لقمة العيش. فالمسؤول عن استلام السيارات في النوادي وحده يتقاضى أقله 5 آلاف ليرة لبنانية (نحو 3 دولارات) وثمن المشروب لا يقلّ عن 10 دولارات، هذا في حال غياب البرنامج الفني. أما في حال الحجز مع برنامج، فلن تكون الكلفة دون ال25 دولاراً للشخص الواحد. وهنا يأتي رأي الساهرين بأنّ السهر أولوية، وبالتالي تُخصص له موازنة منذ بداية الشهر. ولو اضطر الأمر يمكن استخدام بطاقات الاقتراض (الائتمان) المصرفية التي تسمح بالإنفاق إلى حدّ معين ثم يسدد المقترض 10 في المئة تباعاً إذا لم يستطع المقترض دفع مبلغ أكبر من ذلك. وبالتالي، فحتّى الاستدانة خيار مطروح أمام اللبناني كيلا يُحرم من عالم الليل الذي يساعده على التذكّر بأنّه إنسان ويحقّ له أن يعيش.