لم يعد افتراش عمال مصريين الرصيف الموازي لمقر البرلمان ومبنى مجلس الوزراء في أحد أهم شوارع وسط القاهرة مشهداً يستوقف المارة بسبب تكراره، حتى أن هذا الرصيف في شارع قصر العيني بات يطلق عليه «هايد بارك» المضربين، إذ لا يكاد أن يخلو حتى يملؤه محتجون جدد يقضون وأسرهم أياماً في ترديد هتافات تطالب بحقوقهم التي قد تختلف، لكنها تشترك جميعاً في كونها مطالب اقتصادية أساساً تتعلق بتراجع مستوى المعيشة. ومنذ نهاية عام 2007، تتكرر الاحتجاجات العمالية، سواء في شركات حكومية أو خاصة، خصوصاً أن السنوات الثلاث الماضية حملت كثيراً من المتغيرات التي طرأت على طريقة عيش المصريين في ظل ارتفاع الأسعار الذي بات «هماً يؤرقهم»، إذ تدنى «الدخل الفعلي» للسواد الأعظم منهم بفعل ارتفاع معدلات التضخم التي شهد زيادات هي الأعلى منذ عام 1990. لكن اللافت هو الانفصال بين المطالب الاقتصادية للمحتجين وبين المطالب السياسية التي ترفعها النخبة، ففي وقت تجتذب مطالب الأحزاب والقوى السياسية المعارضة بتعديل الدستور وإتاحة الفرصة للمنافسة على الرئاسة وإلغاء القوانين المقيدة للحريات اهتمام وسائل الإعلام والنخبة في شكل يصور كما لو أن قطاعاً كبيراً يدور في فلك هذه المطالب، فإن الفئات التي تتحرك في الشارع لا تعنيها هذه الأمور من قريب أو من بعيد. ولا يعلم محمود رمزي، وهو أحد عمال شركة «امنيستو» المعتصمين أمام مقر البرلمان، شيئاً عن مؤتمر ائتلاف أحزاب المعارضة للإصلاح السياسي الذي عقد قبل أيام في القاهرة وعوّل على الشارع لإحداث التغيير السياسي. ويضيف رمزي بعد أن ردد فاصلاً من الهتافات المطالبة بإقالة رئيس الوزراء أحمد نظيف: «لا شأن لنا بتعديل الدستور... كل ما نطمح فيه هو إعادة تشغيل الشركة التي هرب مالكها إلى الخارج وأغلقها... مئات الأسر أصبح مصيرها التشريد ولن نترك الشارع حتى توفر لنا الحكومة فرصة عمل». أما المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي الذي أثار جدلاً كبيراً في مصر بعد إعلانه استعداده لخوض انتخابات الرئاسة، فهو بالنسبة إلى رمزي ليس سوى «شخصية غامضة»، فكل ما يعرفه عنه أنه «شخص يريد أن يحل محل الرئيس حسني مبارك». ويؤكد أنه لا شأن له ولزملائه بالسياسة، «فقط نطالب بلقمة العيش». ويؤكد الخبير في «مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية» الدكتور عمرو الشوبكي ل «الحياة» أن «هناك انفصالاً تاماً بين المطالب السياسية والاجتماعية... أصبحا عالمين مختلفين تماماً»، مشيراً إلى أن طريقة تفكير العمال تختلف عن طريقة تفكير الناشطين السياسيين. وأضاف: «من المفترض أن يكون للمطالب الاجتماعية وسيط سياسي يعبر عنها، وأن تقف وراء المطالب السياسية قوى اجتماعية تساندها، لكن الحكومة بذلت جهداً كبيراً لفصل كل ما هو سياسي عن الأمور الاجتماعية، واعتبرت أن تفاعل القوتين خط أحمر لا يمكن تجاوزه ونجحت في ذلك، ما جعل المطالب السياسية بلا تأييد شعبي والمطالب الاجتماعية بلا سند سياسي». وأوضح أنه «ترتب على ذلك إضعاف الطرفين، فالمفاوضات وإن حققت بعض المطالب الاجتماعية، إلا أنها لم تجد حلاً جذرياً لتحسين الأجور وتطوير الأداء الاقتصادي، وكذلك فإن المطالب السياسية طالما ليس لها بعد اجتماعي ستظل تحت سيطرة الحكومة لأن من تقف وراءها فئة محدودة». ويعتبر الناطق باسم كتلة النواب المستقلين الدكتور جمال زهران أن «ضغوط الحياة تدفع الغاضبين إلى الاحتجاج بدرجة شديدة من التلقائية». ويقول ل «الحياة»: «هذه الإضرابات تعكس دلالة ما، فالغضب لدى الفئات المختلفة بات شديداً ولا يحتمل... وهناك بعدان أساسيان يحركان أي فئة أو جماعة، الأول اقتصادي وهو مترد للغاية والثاني سياسي وهذا لا يتأتى إلا عبر توافر درجة من الوعي والنضج تتولد الآن نتيجة الانسياب الإعلامي، ما يدفع في اتجاه مطالب سياسية لا يقدر النظام على تحملها». ولا يرى الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم غضاضة في هذه الإضرابات. ويقول القيادي في الحزب أمين قطاع الأعمال الدكتور حسام بدراوي إن «هذه الإضرابات لها أثرها الإيجابي، ولا خطورة من تكرارها... مرحلة الانتقال من مجتمع مغلق إلى آخر أكثر انفتاحاً ترافقها دائماً توترات... إذا وقع ظلم على فئة معينة، فعليها أن تطالب بحقوقها وعلى الحكومة أن تلبي هذه المطالب، لكن إذا كان هناك محرض وراء هذه الإضرابات فهذا أمر غير مقبول». ويعتبر بدراوي أن هذه الإضرابات «دليل نجاح للحزب وحكومته وليست دليل فشل، فالإضراب دليل على زيادة مساحة الحرية، وهذا الأمر يمثل مكسباً للنظام. المهم ألا يكون هناك نفاق اجتماعي من أجل استغلال هذه الظواهر سياسياً».