تناولت دراسة نتائج القصف الاستراتيجي الأميركي ونجاعة الضربات الجوية في أثناء الحرب العالمية الثانية، ونبهت الى فشل الضربات هذه في حسم حرب فيتنام. وأضعفت الدراسة مكانة سلاح الجو الأميركي في الخطط العسكرية. واليوم، ينظر الى قتل الأعداء بواسطة سلاح الجو على أنه عبثي، في وقت تعلي سياسات الحكومة الأميركية شأن نهج بناء الأمة لمكافحة المتمردين. ولكن وقت التخلص من سلاح الجو لم يحن بعد. وفي بدايات استخدامه، حقق السلاح الجوي العسكري نجاحات كبيرة. وكان الإيطاليون اول من توسل به في قصف ليبيا، في 1911. ولكن عمليات القصف الجوي الأخرى لم يكتب لها نجاح نظيرتها الإيطالية، في مطلع القرن السابق. والأهداف الليبية كانت مكشوفة في الصحراء الواسعة، وافتقر العدو الى صواريخ مضادة للطائرات تتصدى للهجمات. فشرط نجاح الضربات الجوية هو انتشار العدو في أمكنة فسيحة مفتوحة، وعدم حيازته صواريخ مضادة للطائرات. ولم يتوافر الشرط هذا في الحرب العالمية الثانية. ولم تبلغ الهجمات الجوية التكتيكية غايتها في حرب فيتنام. وبالغ المراقبون في الإستناد الى عِبر حرب فيتنام. ففي 2006، سارع هؤلاء الى الإعلان أن حملة القصف الجوي الإسرائيلي على أهداف «حزب الله» في لبنان ستفشل. وكان دليلهم على ذلك مواصلة «حزب الله» اطلاق الصواريخ على اسرائيل. وبدا أن اسرائيل دفعت ثمناً سياسياً باهظاً جراء انتشار صور الضحايا من الأطفال أو ألعابهم المكسورة في وسائل الإعلام العالمية. ولكن، على خلاف ما خلص إليه المراقبون، أعلن زعيم «حزب الله» في ختام الحرب، أنه ما كان ليأمر بشن الهجوم على الدورية الإسرائيلية لو عرف حجم الرد العسكري الإسرائيلي المدمر. وقبل حرب تموز (يوليو) 2006، درج «حزب الله» على اطلاق صواريخ في سبيل رفع التوتر واستفزاز اسرائيل. ومنذ وقف اطلاق النار في 2006، الى اليوم، امتنع الحزب من اطلاق الصواريخ على اسرائيل. وإذا أطلقت صواريخ من لبنان على اسرائيل، سارع ممثلوه الى نفي مسؤولية «حزب الله» عنها. وهذا قرينة على بلوغ القصف الجوي الإسرائيلي أهدافه الرادعة. وبعد ثلاثة أعوام، في أثناء الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، زعم مراقبون أن القصف الجوي لن يثمر ردعاً. والخسائر البشرية في القصف هذا لا يستهان بها، وبلغ عدد الضحايا 1300 فلسطيني. وعليه، لا يجوز اطلاق صفة الضربات «الجراحية» الدقيقة على الضربات الجوية. وحققت الحملة العسكرية هذه أهدافها. فعدد الصواريخ والقذائف التي أطلقت على اسرائيل من غزة انخفض من 3 آلاف و278 قذيفة، في 2008، الى 248 قذيفة، في 2009. ويرى الخبراء العسكريون أن النجاح لن يكتب للضربات الجوية في افغانستان. وهم يغفلون عن أن شرطي التجربة الإيطالية في ليبيا متوافران في البلد هذا. فعلى رغم قدراتها القتالية، لا يسع حركة طالبان التصدي لسلاح الجو الأميركي وطائراته التي تحلق على ارتفاعات عالية في منأى من الصواريخ اليدوية الصنع. وعلى رغم اختباء المسلحين في الجبال، يضطر مقاتلو طالبان الى اجتياز مساحات مكشوفة للانتقال من واد الى آخر مجاور. ويبعث على الأسف اهمال الولاياتالمتحدة قوة الضربات الجوية الاستراتيجية. وهي تقصر، اليوم، استخدام سلاح الجو على توجيه طائرات بلا طيار ضربات تكتيكية لملاحقة زعماء طالبان، وعلى الاستعانة بالمروحيات لمساندة العمليات البرية، على رغم أن في وسع طالبان اصابة الطائرات هذه. ويدرك الجنرال ستانلي ماك كريستال مترتبات اللجوء الى القصف الجوي السياسية في الداخل الأفغاني والخارج. ولذا، يرى ان الاستعانة بسلاح الجو هي آخر الحلول. ويسعى ماك كريستال في هزيمة طالبان من طريق حماية الأفغان المدنيين، وتوفير الخدمات، وتحفيز التنمية الاقتصادية، وإرساء الحكم العادل، على ما ينص دليل الحقل (الحربي) الجديد 3-24. الحق أن بلوغ مثل الأهداف هذه يحتاج الى قرن أو اثنين، في بلد مثل أفغانستان. وليست كلفة طريقة الحقل الحربي 3-24 بخسة مادياً. فباراك أوباما على قاب قوسين من ارسال 30 الف جندي جديد الى افغانستان، وكلفة الجندي الواحد سنوياً نحو مليون دولار. وكلفة اللجوء الى سلاح الجو وبعث الضربات الجوية الاستراتيجية معقولة، وتقل عن كلفة رفع عدد الجنود. ويجب أن تترافق الضربات هذه مع تسليح خصوم طالبان وانسحاب القوات الأميركية. وتشن الضربات الجوية العنيفة عند تجمع مقاتلي طالبان وإعدادهم لهجوم. والحل هذا تشوبه شوائب كثيرة. ولكنه يقلص نفقات مشروع «بناء الأمة» العبثي. وأغلب الظن أن ينتهي الأمر بأوباما الى انتهاج الحل هذا، بعد اختبار بقية الحلول. * خبير عسكري، عن «فورين بوليسي» الأميركية، 4 -3/2010، اعداد م. ن.