«أنا تركيّ. على حقّ، وذكي. (...). يا أتاتورك العظيم، الطريق الذي فتحته لنا، والهدف الذي أشرت إليه، أقسمُ على أن أسير نحوه دون كلل. كم هو سعيد مَن يقول: إنّني تركيّ». هذا القَسم، يردده الأطفال، كلّ صباح، كشعار، في كلّ اجتماع صباحي مدرسي، قبل دخولهم إلى صفوفهم. على هذا الشعار، تربّى ويتربّى أطفال كلّ مكوّنات الموازييك الحضاري والإثني والعرقي لتركيا، على أنّهم أتراك، لا غير. ومن بين هؤلاء الأطفال، مَن هم الآن، كتّاب وأدباء وصحافيون وإعلاميون وأصحاب دور نشر كرديّة، يريدون النهوض بالثقافة واللغة الكرديّة من بين ركام 86 سنة من الحظر والصهر القومي. الأكثر نشاطاً تنشط في تركيا نحو 20 دار نشر كرديّة. ومنها على سبيل الذكر: «لييس»، «بلكي»، «دوز»، «آفيستا»، «برفين»، «آرام»، «دنك»، «نوبهار»، «روناهي»، «آفا»، «هيفدا»، «دو»...، وكلّها تزعم أنّها مستقلةّ، وغير منحازة لأيّة جهة سياسيّة أو أيديولوجيّة معيّنة. لكن، سرعان ما تتبدّى الخلفيّات، أثناء الدخول في نقاش مع أصحابها حول قضايا الساعة الكرديّة، بخاصّة في تركيا. ولعلّ من أكثر الدور التي تحظى بمعايير الاستقلاليّة، والأكثر نشاطاً، هي دار «لييس»، الكائنة في شارع الفنّ، («كولانا هونر» بالكرديّة، و «سانات جاده سي»، بالتركيّة)، وسط مدينة آمد/ديار بكر، كبرى المدن الكرديّة جنوب شرق تركيا. تأسست الدار عام 2004، ويديرها الكاتب والشاعر والمترجم الكردي لال لالش. وحتّى الآن، أصدرت ما يزيد عن 100 كتاب، غالبيتها العظمى باللغة الكرديّة، إلى جانب نشر عدد قليل من الكتب باللغة التركيّة. هذه الدار، تختلف عن باقي زميلاتها الكرديّات، بأنّها تقيم نشاطات ثقافيّة كرديّة، ولا تكتفي بطبع ونشر وتوزيع الكتاب الكرديّ في تركيا. وإلى ذلك، إقامتها، بالاشتراك مع مؤسسة «وينتر ناشته» للثقافة في بولندا، والمركز الفني في ديار بكر، وبدعم من القنصليّة الهولنديّة في اسطنبول، من 5 إلى 7/11/2009، ملتقى «أيّام الأدب العالمي». حيث شارك فيه العديد من الأدباء الأكراد والأتراك، والعرب من المغرب، ومن أوروبا. وتناولت محاور الملتقى حماية الهويّات الثقافيّة، والتواصل مع التاريخ غير المعلن، وكشف الضغوط التي تتعرّض لها اللغات والثقافات. وتخللت المحاضرات أمسيّات شعريّة بلغات عدّة. وكانت فعاليّات الملتقى بثلاث لغات، الكرديّة والتركيّة والإنكليزيّة. كما أقامت دار «لييس» أيضاً، بالتعاون مع اتحاد الكتّاب الكرد في ديار بكر، ملتقى خاصاً باليوم العالمي للقصّة في 14/2/2010، شارك فيه العديد من الكتّاب والأدباء الكرد من سورية والعراق وتركيا. ولا زالت هذه الدار طموحة، وتسعى لتحفيز وتنشيط الثقافة الكرديّة، وعبر فعاليّات وملقيات تكون متنفّساً للثقافة والأدب الكردي في تركيا، وواحة للتلاقي مع الثقافات الأخرى، داخل وخارج تركيا. عراقيل وطموحات حول معوِّقات وعراقيل طبع وتوزيع الكتاب الكرديّ، يقول صاحب ومدير دار «لييس» لال لالش ل «الحياة»: «حركة النشر والطباعة الكرديّة في تركيا، محكومة بعوامل عدّة، تؤثر سلباً على أدائها، منها: التقسيم الحاصل بحقّ الوطن الكرديّ (يقصد كردستان). واعتماد ابجديات متعددة في اللغة الكرديّة (الحروف العربيّة في العراق وإيران، واللاتينية في سورية وتركيا، والروسيّة لدى أكراد روسيا وجمهوريّات الاتحاد السوفياتي السابق). وهذا بحد ذاته، عائق كبير أمام تواصل النخب الكرديّة، فما بالك تأثيرها على حركة النشر والطباعة». ويضيف لالش: «العامل الاقتصادي يؤثّر في شكل سلبي على أداء دور النشر. فحين يكون الناس راكضين وراء تأمين لقمة العيش، يصبح الكتاب في أدنى سلّم الأولويّات لدى المواطن. التنميّة الاقتصاديّة تخلق تنمية ثقافيّة، ليس من باب الترف، بل من باب الحاجة الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة الملحّة. ويؤثر ما تتعرّض له اللغة الكرديّة من منع، وعدم السماح لها بأن تكون لغة التربية والتعليم في المدارس التركيّة، هذا أيضاً على حركة اقتناء الكتب الكرديّة». ويشير لالش إلى أن رغم ذاك، «هنالك تطوّر في سوية الأدب الكردي. وشهد الكتاب الكردي تطوّراً ملحوظاً من حيث الطباعة والنوعية والجودة، ما يمكننا من القول إن الأدب الكردي، وعبر الكتاب، وحركة الطباعة والنشر، صار جزءاً من الإرث الأدبي العالمي». عبدالله كسكين، صاحب دار «أفيستا»، الكائنة في زقاق يتفرّع من شارع الاستقلال في حيّ تاكسيم في اسطنبول، ذكر أن داره، قد نشرت منذ نشأتها، منتصف التسعينات، أكثر من 300 كتاب كرديّ، جلّها باللغة الكرديّة. وردّاً على سؤال أهميّة تأسيس نقابة أو اتحاد للناشرين الكرد في تركيا، أجاب كسكين: «صعب جدّاً التفكير في هكذا طرح، فما بالك العمل لأجل تحقيقه؟! الكلّ يزعم الاستقلاليّة. لكن، سرعان ما تظهر البطانة الأيديولوجيّة، والانسحاب الى الخنادق السياسيَّة». ونفى كسكين ما يتردد، حول أن داره تحظى بدعم مالي وإعلامي من رموز سياسيّة في كردستان العراق. ونفى أن يكون أيّ كتاب صادر عن داره، «نسبة منه، مباعة سلفاً في كردستان العراق». بينما كان للالش رأي مختلف حول ضرورة تأسيس اتحاد للناشرين الكرد بقوله: «قطعاً، التباين الأيديولوجي والسياسي، ليس مبرراً ومعرقلاً لتأسيس اتحاد أو رابطة للناشرين، إذا توافرت النيّة الصادقة، والإرادة الجادّة، والترفُّع عن الحساسيّات، والارتهان الى المنافسة الشريفة، طالما أن هاجسنا خدمة الثقافة الكرديّة، وزيادة رصيد المكتبة الكرديّة، وليس رصيدنا الشخصي ماديَّاً. علينا تسخير كل المنافذ والعلاقات لخدمة الثقافة الكرديّة. لدينا طموح ان نؤسس اتحاداً لدور النشر الكردية. ونسعى لذلك». وأضاف: «علاقاتنا مع مؤسسات النشر في كردستان العراق وديّة. وليس لدينا نشاطات مشتركة، مع الأسف». وحول مفهوم استقلاليّة دور النشر، يقول لال لالش: «الأهم في هذا السياق، هو أداء الدار، من حيث طباعة وانتقاء الكتب ونوعيتها. ومدى توخيها الحياد. نحن معيارنا جودة المادّة، وليس خلفيّة صاحبها. لي قناعاتي السياسيّة والأيديولوجيّة. لكن، لا نسمح لأنفسنا في «لييس»، بأنّ تكون الأيديولوجية هي بوصلة تعاطينا مع الكتّاب والأدباء الكرد، أيَّاً يكن انتماؤهم ومشربهم الفكري. نشرنا للكثير ممن نختلف معهم أيديولوجيّاً. نحن في «لييس»، مجموعة من الأدباء والكتّاب الشباب. وزَّعنا المهام في ما بيننا. فمنَّا من هو مسؤول عن الشعر، ومنّا من هو مسؤول عن الرواية، او البحث، أو الترجمة... وهكذا دواليك. نزعم أننا الأكثر توخِّياً وحرصاً على انتقاء المادّة. ولا تغرينا الأسماء الكرديّة اللامعة. وربما هذا هو الذي يجعلنا نلتفت أكثر للطاقات الإبداعيّة الشابّة، قدر المستطاع». خارج السياق وداخل السرب غالبيّة دور النشر الكرديّة في تركيا، علمانيّة التوجّه، قوميّة ويساريّة. باستثناء دار نشر واحدة، إسلاميّة، تابعة لوقف «الزهراء» الإسلامي، المعني بنشر وتدريس فكر وفلسفة الفكر الإسلامي الكردي بديع الزمان النورسي (1877 - 1960)، هي دار «نوبهار»، التي تأسست عام 1992، ومقرّها في حيّ بيازيد في اسطنبول. تصدر عن هذه الدار مجلة باللغة الكرديّة، تحمل نفس الاسم «نوبهار»، ويرأس تحريرها، ويدير الدار، الكاتب الكردي سليمان تشيفيك. نفى الأخير، أيّة علاقة لهم بقناة «تي آر تي» التركيّة، الناطقة باللغة الكرديّة. وإنّ بعض العاملين السابقين في دار ومجلّة «نوبهار»، الذين يعملون الآن في القناة التركيّة، لا علاقة للدار بهم. وطالب ب «تضمين حقّ التعليم والطباعة والنشر باللغة الكرديّة في الدستور التركي». وذكر تشيفيك أنّ الخلفيّة الإسلاميّة للدار، «لا تحول دون النشر لكتّاب أكراد علمانيين». وأشار إلى أن لديهم رغبة في التواصل مع دور النشر في كردستان العراق وباقي أجزاء كردستان، والمهجر، ومع دور نشر ومؤسسات ثقافيّة عربيّة، متقاطعاً في هذه الرغبة مع لال لالش، مدير دار «لييس» للثقافة والنشر. ومع ظهور مؤشّرات الى عدم احتواء الدستور المدني المزمع، حقّ الأكراد، كثاني قوميّة في تركيا (20 مليون مواطن) في التعلّم بلغتهم الأمّ، في المدارس والمعاهد والجامعات التركيّة، ومع تواجد القيود والضغوط على حركة الصحافة والإعلام والطباعة والنشر باللغة الكرديّة في تركيا، ما زالت طباعة الكتاب الكردي، وتوزيعه، وحتّى قراءته، ضرباً من النضال، الذي قد ينطوي على أكلاف باهظة.