أصبح الثالث عشر من آذار (مارس) يوماً للثقافة الوطنية في فلسطين. وقد اختير هذا التاريخ ليتزامن مع اليوم الذي وُلد فيه محمود درويش، شاعر القضية والشعب. وفي هذا اليوم ينسج الفلسطينيون على منوال شعوب كثيرة، في مناطق مختلفة من العالم، تحتفي بمبدعيها الكبار لتتحول تواريخ ميلادهم إلى أعياد يجرى فيها تكريس معنى الثقافة الوطنية من جهة، واستلهام القيم الجمالية والفكرية والحضارية التي جسّدها هؤلاء في حياتهم ونصوصهم من جهة أخرى. وفي مسعى مختلف شعوب الأرض إلى تحقيق وجودها في الزمان والمكان، ونيل حريتها، واستقلالها، وبناء دولتها على الأرض التي تبلورت فيها هويتها الحضارية والروحية وخصوصيتها الثقافية، يظهر دائماً ما يسمى في لغات وآداب كثيرة بالشاعر القومي، الذي لا يكرس مشروعه الإبداعي في خدمة قضايا الحرية والاستقلال وحسب، بل يوظف طاقته الإبداعية في اجتراح قيم جمالية وفكرية وثقافية جديدة، تضفي على مسعى الحرية والاستقلال دلالات كونية عامة، وتجدد اللغة والثقافة والأفكار. وغالباً ما يترافق المشروع الإبداعي للشاعر القومي الكبير مع الفعالية السياسية والمشاركة الفعلية في الكفاح الوطني. وقد تجسّدت كل تلك المعاني في المسيرة السياسية والإبداعية لمحمود درويش، الذي تعرّض منذ وقت مبكّر في حياته للتنكيل والاعتقال والإقامة الجبرية، مرّة بسبب انخراطه في العمل السياسي دفاعاً عمّا تبقى من شعبه في الجليل والمثلث والنقب بعد النكبة، ومرة بسبب نصوص إبداعية تتجلى فيها معاني الانتماء إلى الأرض، وحماية الذاكرة من النسيان. كانت تلك النصوص الأغصان الصغيرة الأولى لشجرة ستصبح مع مرور الأيام شاهقة، غزيرة الثمر، ووارفة الظلال. فبعد خروجه إلى العالم العربي، انخرط محمود درويش في صفوف «منظمة التحرير الفلسطينية»، وهي الإطار السياسي والثقافي والتنظيمي للحركة الوطنية، والبيت المعنوي للفلسطينيين أين ما وُجدوا، فعاش في الزمان والمكان ما عاشته من حروب البقاء على مدار فترة تصل إلى أربعة عقود من الزمن، وترك بصمة نهائية وحاسمة على عدد من أهم وثائقها السياسية والفكرية، وعلى رأسها إعلان الاستقلال. لكن إسهام محمود درويش في الحياة السياسية والثقافية للفلسطينيين لم يقتصر على الفعالية السياسية المباشرة، والانخراط في القضايا اليومية للصراع، بل تجاوز هذه وتلك ليتجلى في تحوّلات إبداعية متلاحقة وسمت مشروعه الشعري الكبير، على مدار خمسة عقود من الزمن، احتل بفضلها مكانة فريدة في الأدب العربي، باعتباره مجدداً ومطوّراً للشعرية العربية، وواحداً من كبار شعراء العالم في النصف الثاني من القرن العشرين. كانت فلسطين الأرض، والشعب، والهوية، والجرح، والذاكرة، نقطة الارتكاز الرئيسة في المشروع. فهي الشاهد الوحيد، والمؤتمن، على العقد الضمني، الأخلاقي والوطني والجمالي، بين الشاعر وشعبه. وقد التحم في سياق ذلك العقد، وعلى نار موهبة نادرة ومثابرة، صوت الأنا الفردي بصوت الجماعة، فأصبح كل ما كتب من نصوص شعرية ونثرية مقاطع متصلة في سيرة ذاتية تختزل التغريبة الفلسطينية في حياة فرد بعينه تصادف أنه شاعر، وتستفيض في سرد شؤونه وشجونه الفردية فتمتلئ حياة الشاعر الفرد بمفردات النشيد الجمعي الكبير. بيد أن التحام الصوتين الفردي والجمعي في سيرة متصلة واحدة، لم يكن مستقلاً أو منفصلاً عن مسعى تعريف الصراع في فلسطين وعليها، بلغة ومفاهيم وقيم حديثة وحداثية، تستلهم خصوصيتها الروحية والثقافية والتاريخية، وتضع الصراع فيها وعليها على سكة ما يخوضه بنو البشر من كفاح في سبيل الحرية والعدالة والمساواة في كل مكان آخر من العالم. لذلك تحوّلت فلسطين في مشروعه الإبداعي والإحيائي الكبير إلى استعارة كونية، لم تعد مجرد أرض صغيرة بل أصبحت تجربة مديدة في الزمان والمكان، لما ينجم عن التحام الدنيوي بالمقدس من المآسي والأشواق الإنسانية الخالدة، في بقعة من الأرض اجترحتها الجغرافيا سرّة للعالم القديم، وحكم عليها التاريخ، بالعيش على مفترق طرق الحضارات والهجرات والغزوات. وإذا كان ذلك قد تحقق في الحقل الأدبي، بأدوات لغوية وجمالية، فذلك ما تحقق أيضاً في الحقل السياسي، وفي الميدان، على يد الشهيد الرئيس ياسر عرفات، مؤسس الحركة الوطنية الفلسطينية وقائدها، ورمزها، منذ أواسط الستينات وحتى آخر يوم في حياته. محمود درويش رد على رواية ملفقة تبرر طرد الفلسطينيين برواية مضادة تستنهض الذاكرة، وياسر عرفات قاد الفلسطينيين في مشروع العودة إلى التاريخ بكفاءة المحارب في حقل السياسة وميادين الحرب. وبهذا المعنى أصبح كلاهما رمزاً لفلسطينالجديدة الطالعة من تحت رماد النكبة. وسيبقى كلاهما رمزاً كبيراً ودائماً من رموز فلسطين على مر الأيام. واليوم، وقد أصبح الثالث عشر من آذار عيداً للثقافة الوطنية، يحتفي الفلسطينيون بالمشروع الإبداعي والإحيائي الكبير لمحمود درويش، وإذ يتأملون معه، ومن خلاله، معنى الثقافة الوطنية، يستعيدون أيضاً ذكرى الراحلين الكبار من المبدعين الفلسطينيين: إدوارد سعيد، إميل حبيبي، وفدوى طوقان، وتوفيق زيّاد، وعبداللطيف عقل، وهشام شرابي، وغسان كنفاني، ومعين بسيسو، وخليل السكاكيني، وخليل بيدس، ومحمود سيف الدين الإيراني، وسميرة عزّام، واسكندر الخوري البيتجالي، وعبدالرحيم محمود، وأبو سلمى، وإبراهيم لاما، وإسعاف النشاشيبي، وإبراهيم طوقان، وإسماعيل شموط، وكمال ناصر. كان في محمود درويش أثر من كل هؤلاء، بقدر ما كان فيهم أثر منه، فعلى رغم تفاوت الأجيال، وبعد المسافة الزمنية أحياناً، إلا أن هؤلاء كانوا أبناء فلسطين، الذين أسهموا في تكريس هويتها وثقافتها الوطنية، وعلى طريقهم، ومن تراثهم الحي، يستلهم المبدعون الفلسطينيون اليوم وغداً معنى الثقافة الوطنية، معنى عودة الفلسطينيين إلى التاريخ، ومعنى كتابة الرواية المضادة، فمن يروي الحكاية، كما كتب محمود درويش يرث أرضها. سيكون الثالث عشر من آذار، وقد أصبح يوماً للثقافة الوطنية في فلسطين، عيداً للاحتفاء بالوطن والهوية، وبالمعاني والقيم النبيلة التي عبّرت عنها أجيال متعاقبة من الفلسطينيين. وسيصبح هذا العيد جزءاً من التقاليد الثقافية والحضارية للشعب الفلسطيني يرثها الأبناء عن الآباء، فالشعوب التي تحتفي برموزها، وتُعلي من شأن ثقافتها الوطنية، هي الشعوب القادرة على تقرير مصيرها، وانتزاع ما يليق بها من مكان ومكانة تحت الشمس. فليكن يوم الثالث عشر من آذار مناسبة لإرساء تقاليد ثقافية جديدة تعزز وحدة وبقاء وصمود الشعب في أرضه، وتضفي على رموز الثقافة الوطنية ما يستحقونه من عرفان لا يتأتى معناه إلا بتطوير ومواصلة ما أنفقوا حياتهم الشخصية والإبداعية من أجله.