منذ أن أعلنت الأكاديمية السويدية عن فوز البلاروسية سفيتلانا اليكسييفيتش بجائزة نوبل للأدب لهذا العام، والبعض منا يتساءل عن أحقيتها بالجائزة في ظل وجود كتاب أكثر ترشيحاً مثل فيليب روث وتوماس بينشون وميلان كونديرا، في حين أن آخرين يجدون في هذا الاختيار انتصاراً للكتابة الأكثر ملامسة للجرح الإنساني المتجدد التي عرفت بها اليكسييفيتش. وفي البداية أريد أن أقول إن الجدل حول عدالة جائزة نوبل في بعض فروعها (وبالأخص السلام والأدب) ونزاهتها ليس جديداً بل سيظل يتجدد كل عام باتهامات التحيز السياسي والثقافي التي تطال أعضاء الأكاديمية، المنوط بها اختيار الفائزين. وفي رأيي أن هذا الجدل أمر طبيعي لجائزة في مجال لا يستند بالأساس على معايير من السهل تحديدها والاتفاق على خدمتها لتقدم البشرية، بعكس مجالات الطب والفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية التي يسهل قياس نتائجها. لكن الجدل يتعدى طبيعة العلوم الإنسانية وآدابها ليشمل التشكيك في مقدرة مجموعة قليلة من المحكمين السويديين على اتخاذ قرار محايد كل عام. إذ يُتَهم هؤلاء المحكمين تارة بنقص اطلاعهم على ثقافات غير أوروبية وتارة أخرى بالرغبة في انتشار الجائزة ومناصرة قضايا أقرب للسياسة منها للأدب وفنونه. وهذه تهم يصعب تجاهلها، إذ يكفي أن نذكر أن كُتاباً مثل جيمس جويس ومارك توين وخورخي لويس بورخيس وفلاديمير نابوكوف وعزرا باوند لم يتم اختيارهم للجائزة في أوج عطائاتهم أما - كما يعلل بعض المؤرخين والنقاد - لقصر اطلاع المحكمين على إنتاجهم الأدبي أو لصعوبة قراءته وتصنيفه، أو لمواقف سياسية معادية للثقافة السائدة في أوروبا لبعض هؤلاء الكتاب. وليس سراً ممارسة بعض الكتاب التودد للوسط الفني في السويد والحرص على وصول منتجهم للصحافة والإعلام في ذلك البلد ليكونوا تحت نظر المحكمين. وقد كان هذا أكثر وضوحاً في عشرينات القرن الماضي عندما مارس كتاب ونقاد أميركيون الكثير من الترويج لأعمالهم في أوروبا والحرص على ترجمتها للغة السويدية ليتمكن سنكلير لويس من الفوز بالجائزة للمرة الأولى لكاتب أميركي في عام 1930. وجدير بالذكر هنا أن الكثير من روايات لويس كانت قد ترجمت للسويدية وتصدرت قائمة أفضل الكتب مبيعاً هناك في حين - وعلى رغم حملته الواسعة هو الآخر في السويد ذلك الوقت - لم يتمكن مواطنه ثيدور درايزر من الفوز بالجائزة وقد كان الأحق بها من لويس كرائد للرواية الواقعية في أميركا باعتراف لويس نفسه في خطاب قبول الجائزة. وقد حاولت الأكاديمية التعويض عن أخطائها في النصف الثاني من القرن الماضي عندما منحت الجائزة لكتاب مثل ايرنست هيمنغوي وتي اس اليوت وهارولد بنتر بعد سنوات من توهجهم تقديراً لإنتاجهم الأدبي القديم. إن الاقتراب من أعضاء اللجنة، سواء بالحرص على ترجمة الأعمال إلى الإنكليزية أو حتى السويدية أو محاولة الكاتب الوصول إلى الوسط الثقافي في السويد من أجل الترشح للجائزة، لا ينبغي أن يفهم على أنه محاولة غير أخلاقية من الكتاب، إذ ينبغي على الكاتب أو الكاتبة (أو من يمثلهم من وكلاء أو حتى مؤسسات وطنية ترغب بإبراز جانب من ثقافتها) أن يجدوا لأنفسهم مكاناً في الساحة الدولية سواء بترجمة أعمالهم أو حتى بتسليط الضوء عليها في نقاشات أدبية ونقدية عالمية، لا سيما عندما يكون ذلك الإنتاج جديراً بالمناقشة. وقد انتشر أخيراً أن الكاتبة المصرية نوال السعداوي تقوم هذه الأيام بحملة إعادة طرح كتبها باللغة الإنكليزية ومحاولة تسليط الضوء على إنتاجها الأدبي وغير الأدبي في الأوساط الثقافية في أوروبا كمرشحة عربية للجائزة. التهمة المتجددة هذا العام مع فوز سفيتلانا اليكسييفيتش - وربما كانت نفسها الحافز الذي يخدم كتاباً من الوطن العربي أمثال السعداوي وأدونيس - هي رغبة الأكاديمية في انتشار الجائزة على المستويين الجغرافي والنوعي. وهذا العام مُنحت الجائزة للمرة الأولى لكاتبة عرفت بأسلوبها الصحافي والتحقيقي أكثر منه الأدبي التقليدي بعد أن تحيزت الجائزة للكتابة الإبداعية (الرواية بالتحديد) لسنوات طويلة وبالتحديد بعد منح الجائزة للفيلسوف برنارد روسل في 1950 والمؤرخ ونستون تشيرشل في 1953. لكن لعلنا هنا نستدعي لغة الإعلان عن الفائزة بالجائزة هذا العام ومدلولاته النقدية المستخدمة في وصف إنتاج اليكسييفيتش. إذ ذكرت الأكاديمية أن الحافز الأساسي لفوز سفيتلانا اليكسييفيتش بالجائزة هو «كتاباتها متعددة الأصوات التي تمثل صرحاً للمعاناة والشجاعة» وهي شهادة مستحقة لاليكسييفيتش ليس فقط لتمكينها للأصوات الأكثر جرحاً وهلعاً من التواجد المباشر في نقاء صفحاتها (على شكل مونولوجات لا أراها بريئة من سلطة التحرير!) ولكنها شهادة لتحيز الجائزة لأسلوب اليكسييفيتش الواقعي في الكتابة وملامسته بشكل أكثر وضوحاً للجرح الإنساني في زمننا المعاصر. أما اليكسييفيتش نفسها فأراها قد حاولت توضيح أسلوبها في الكتابة، ورد القليل من هذه الشهادة، بقولها في أول مقابلة لها بعد الإعلان أنها «ليست مؤرخة باردة» وإنه على رغم أن «شاعرية المأساة» تمثل مركزاً مهماً لكتاباتها إلا أنها تهدف بالدرجة الأولى إلى تعرية سطوة «الضمير الصاغر» واستفزاز كرامتنا الإنسانية في مواجهة أكثر الكوارث بشاعة وتدميراً. وهذا وصف دقيق لما يحمله كتابها «أصوات من شيرنوبل (1997)» الذي يروي تاريخاً شفوياً لكارثة مفاعل شيرنوبل النووي التي وقعت في أوكرانيا عندما كانت ضمن الاتحاد السوفياتي في عام 1986. وقد قسمت اليكسييفيتش المونولوجات، التي جمعتها من مقابلات في منتصف التسعينات، إلى ثلاثة أبواب رئيسية تحكي رهبة الموت والتمسك بالحياة وجمال الحزن والألم (وربما حتى الموت) المصاحب لهذه المأساة. وقد حرصت اليكسييفيتش على إعطاء فرصة لوجهات نظر وشهادات تُحمل بعض الضحايا الكثير من المسؤولية في عدم الانصياع لأوامر السلطات بإخلاء المنطقة الملوثة عندما فضلوا البقاء والفناء على مفارقة أرضهم وذكرياتهم. وقد ترتب على هذا التصرف (الذي تتورع اليكسييفيتش عن تحديد موقفها منه) ازدياد كبير في أعداد الضحايا بعد سنوات من الكارثة، إذ إن تعرض هؤلاء العائدين للمنطقة المنكوبة للغازات الملوثة من موقع الكارثة قد نتجت عنه وفيات بأعداد كبيرة تفوق بكثير العدد الناتج عن الكارثة نفسها. ولربما كانت هذه المأساة قد تركزت عندما أصرت بعض الأمهات على الإنجاب في هذه الظروف الكارثية التي حتمت وجود جيل من أطفال مشوهين يموت بعضهم بعد أيام قليلة من الولادة. في هذا الإطار المتردد من السرد بين الظلم والعدالة، الخيانة والولاء، الحب والتضحية، تصور اليكسييفيتش كيف أنَّ الحياة والموت قريبان من بعضهما أكثر مما نتصور، ولربما كان اختيار الحياة هو بالضرورة اختيار للموت عن قصدٍ وعن حب. أو أن اختيار الموت قريباً من الحياة، ومداعباً لها، هو رافدٌ كبير لتقدير الحياة والتمسك بها. هنا تكمن جرأة الطرح في كتابات اليكسييفيتش التي تُصيّر هذا الحب انتحاراً لا يمكننا شجبه أو التمادي عليه بنقد. وكل هذا نتج عن تدخل غير معلن من الكاتبة إلا في دورها الذي وصف بالأحفوري في مغلاته في التنقيب عن المعاناة المندسة في جمود التاريخ المدعي الحياد وعرضها سرداً واقعياً لا يتورع عن التحيز للمأساة والاحتفال بها. وعلى رغم حاجتنا للمزيد من القراءة في طقوس اليكسييفيتش في الكتابة والتحرير لكي يمكننا تعريف دورها في إخراج شهادات من تمت مقابلتهم، إلا أنه يتضح لنا رغبة اليكسييفيتش في الابتعاد عن ضيق التاريخ وغموض الأدب «وعجز الفن بأشكاله المختلفة عن توثيق المأساة الإنسانية» - كما تقول اليكسييفيتش - إلى فسحة التحقيق وحرية السرد الشفوي. ولعلها في خطابها المنتظر، عند تسلمها للجائزة في كانون الثاني (ديسمبر)، تسلط كثيراً من الضوء على هذا الأسلوب الجديد في الكتابة. وفي النهاية أقول إن نوبل في الأدب لم تعد حكراً على الإنتاج الأدبي الكبير، بل لعلها، مع تسارع الزمن وفواجعه وعدم اكتراثنا للأدب أو قصور لياقتنا في القراءة العميقة، تركز في الأعوام المقبلة على خدمة قضايا إنسانية على حساب المعيار الفني أو النقدي البحت. * كاتب سعودي.