يصحو الطيار في السابعة صباحاً مع آلام في الرأس ونشفان في الجسم جعله يشعر بأنه كورقة تين غليظة. استيقظ مقبوض الوجه، يتسرب الشر من عينيه بعد سهرة طويلة مع كأس الشراب. يفكر بنوبة القتل قبل ان يفكر بالتثاؤب، يشعل سيجارة من صنف «حمراء»، وطنية فاخرة، ويقرقع كأس متة ريثما ينتهي الشركاء الآخرون في الوطن من تعبئة البراميل في المروحية. يأخذ الطيار برنامجه اليومي ويحلق في سماء الوطن ليلقي البراميل جميعها على مناطق لا تنتشر فيها صور قائده الأكبر، ولا يملك عليها سيطرة إلا في حيز سماء يحمله ويتيح له أن يقتل بأمان وراحة. ترمى البراميل قبل ان تصدح العصافير، ويغطي الخوف حرارة الشمس. تتناثر البيوت على شكل حجارة صغيرة، ويطير سكانها كأشلاء، وتصير الحياة على شكل قيامة. في غضون دورة مروحية يغيب خلالها الطيار ليعود ويمرر النوبة التالية من القتل، تستنفر على الارض فرق الدفاع المدني لتجلي الجرحى وتدفن القتلى ويستأنف المصورون والموثقون عملهم في تسجيل هذه اللحظات الجهنمية. بضع ساعاتٍ ويصل الخبر الى الشبكات الإخبارية والإعلامية على شكل ارقام دقيقة أو تقارب الدقة. مساء تبث الصور في الوكالات العالمية لتخبر العالم بما حدث، وتنتشر على شكل قصص بعيدة من مضمونها الأساسي، أي الموت. هكذا تتحول الصورة، لقطة فنية تألفها العين التي لا ترغب في المزيد من المآسي والحكايات الحزينة. شاب وعربة برتقال يتسربل فوقها ضوء قمر خرج للتو في السماء. ينكسر الضوء على لون البرتقال، لتمتزج الألوان ويبدو الشكل كأنه الحياة، كل الحياة، امام بناءٍ استوى بالأرض. تداول الجميع الصورة وقرأوا رسالة الحياة الواضحة فيها والتي لا تحتاج الى شرح طويل. إلا أن أم محمد زين، وإصرارها على التشبث بما تبقى من لحظات ابنها الأخيرة بعد سماع خبر موته في برميل تفجر على البناء الظاهر خلف الصورة جاءت تروي قصة أخرى. ترى أم محمد الضوء قاتماً يشبه رائحة المقابر، وتكره عربات البرتقال، كما تلعن جميع من بقوا أحياء في هذا العالم. تقف كل صباح امام البناء المهدم وترتل ذكرى ابنها. تأخذ قبضة غبار املاً بأن تكون مست جسده قبل الدفن وتنظرالى الجزء المتبقي من غرفته. في الطبقة الثانية كان يجلس محمد مساء في الغرفة المطلة على الشارع، والتي اقتطعها الدمار ولم تعد ترى في الصورة. يغرق في ليل المدينة الفارغة، حيث لا صوت يسمع إلا صرير الصراصير البعيد. يحدث حبيبته التي حبس اصبعها بخاتم الخطبة قبل أيام قليلة، لتنتهي سهراته بمشاعر يكاد ضوؤها يصل الى السماء، يرى صورة لشريكة المستقبل وينام من دون ان يعرف انها سهرته الأخيرة، وانه سيفارق الحياة مع الصباح الباكر، عندما يلقى البرميل على البناء الذي ينام فيه. شاب وسيم في منتصف عقده الثالث يعد الايام التي تفصله عن ليلة زفافه ناسياً الموت وغير آبهٍ بكل الجنون الذي يلف شوارع الأحياء في مدينته. كثيرة هي الصور ككثرة الأمهات والأحجار المتساقطة في شوارع المدينة. تلك قصة واحدة لصورة واحدة، وأم محمد واحدة، فكم من لقطات تحكي قصص أفراد وصمودهم من فوق الركام؟ وحيداً أقف لأفكر في الجوائز التي تمنح لأفضل الصور وكيف تكون لطفل يموت. هل يجدر بنا ان نطالب بجائزة لأصدق صورة عوضاً عن الأفضل أم علينا ان نروي قصص الصور كما هي؟ ربما هي الحياة تلزمنا بأن نموت أحياناً ونخفي قصة موتنا لإسكات الجروح في ذاكرة من يحبنا.