عند عتبة السبعين، وبدلاً من إصدار أعماله الشعرية الكاملة، كما المعتاد، يختار الشاعر السوري عادل محمود قصائدَ منتقاة من دواوينه الأحدث ليصدرها في مختارات بعنوان «أنا بريء كسراب» (دار التكوين، دمشق2015). المختارات تقتصر على نماذج من المجموعات الأربع الأخيرة للشاعر «استعارة مكان» و«حزن معصوم عن الخطأ» و«انتبِهْ إِلى ربَّما» وصولاً إلى «الليل أفضلُ أنواع الإنسان» والتي صدرت جميعها بين عامي 2000-2015 بينما استثنى منها أشعاره في السبعينات والثمانينات التي ضمَّتها دواوينه الثلاثة الأولى: «قمصان زرقاء للجثث الفاخرة» و«ضفتاهُ من حجر» و«مسودات عن العالم». إنها مختارات تحتفي بمرحلة النضج الشعري والذهني والروحي إذن، وتنظر بعين الريبة، وربما الازدراء، لتلك البدايات وما بعدها. «أنا بريءٌ كسَرَاب» عنوان ينطوي على مواربة بلاغية، فالسراب ليس بهذه البراءة، إنه خديعةُ اللمعان، ضَلالٌ مَكينٌ في الطريق، ولا ينقصه الدهاء! غير أن الشاعر يتقصَّد اختيار ذلك التشبيه الموارب وإن التبس بالخديعة والمخاتلة، فهو على الأقل أهون من «الجريمة» تلك التي نصطدم بها منذ الصفحة الأولى من المختارات: «الخبرُ العاجلُ الآن، وفي كلِّ آنٍ بعدَ اليوم:/ قَتَلَ هابيل... آدم!» هكذا نقرأ الأسمين في آخر العبارة بلا حركاتٍ إعرابية، فيلتبس معهما الفاعل بالمفعول به! ومن هنا فإنَّ قصائد القسم الأول وهي الأحدث بين المختارات أضفت طبيعة أخرى على تجربة عادل محمود المشغول، قبل الآن، بتفاصيل الحياة وبلاغتها ومعجمها، لا بتاريخ الجريمة وعقابيل الموت وفداحة صُوره، ليكتب قصائده على شكل يوميات معنونة بتواريخ أيامٍ محدَّدات. لكنها ليست يوميات البشر، إذ وجد صاحب «استعارة مكان» نفسه يكتب عن مكان حقيقي هذه المرَّة، بل هو الحقيقة الوحيدة إزاء بشر طارئين ومستعارين وعابرين فيه، فدمشق هي بطل تلك اليوميات بينما البشر فيها مجرَّدُ أشباح وظلال، لرجال غرباء يدخلونها كجنَّة موصوفة، وحين تحين أزمنة النهايات، بشتى أشكالها، يعودون إلى قُراهم ومدنهم البعيدة «كي لا يموتوا غرباء» وهكذا تظهر علاقة دمشق بالغريب: «أيُّها الغريبُ.../هذه مدينةٌ تحبُّ الغُرباءَ/أهمُّ أحيائِها... حيُّ الْمُهَاجرين». ومع إنها يوميات حرب، لكنها حتى في قسوتها تظلَّ معتادة لدى الشاعر، إذ أن الحدث مهما بلغت فداحته، لا ينال تماماً من لغته الأليفة ويومياته الأثيرة!: «رأيتُ كلَّ ما رأيت.../أنا... الأعمى!/ وما زلتُ على رأسِ عَمَلي/ في مهنةٍ أحبُّها:/سقايةُ السَّراب..». لا تنحرف قصائد المختارات بمجملها عن مسار القصيدة السبعينية في الشعر السوري، في تقنياتها وشكلها الفني العام، بيدَ أن شعر عادل محمود في مضمونه شعر شخصي، متخفَّف، ومنذ وقت مبكر، من الموعظة الإيديولوجية، لصالح العناية التفاصيل والإشادة بالأخطاء، بوصفها التاريخ الأقرب للألفة، فلا هو بالكوني ولا هو بالأيديولوجي لكنَّه يراقب عن بعد، في تلك المسافة الوسيطة التي تعنى بالشخصي عناية ذات بُعد «دانديّ» قصيدة «حفيف» مثال مناسب لذلك حيث حفيف القميص على السياج، هو أنفاس الرجُل. وهي صورة تتكرَّر في غير مكان، إلى جانب معجم فائض لأزياء وأكسسوارات: القميص المرفرف غالباً والمفتوح أحياناً! الكنزة، الغليون... لكنها ليست مقتنيات برَّانية مُلحقة بقدر ما هي علامات وأسلحة رمزية لحماية الذات، فعادة ما تلجأ الشخصية «الداندية» إلى الركون للتأنُّق وتهذيب السلوك لكي تجعل من التَّغنُدر المظهري سياجاً لأجل الحماية الذاتية من الآخر. وربما هروباً من الاضطهاد الجماعي، وتعبيراً عن الشغف المضاعف بالحياة. وعلى المنوال ذاته يرسم تلك الصورة «الغندورية» لامرأته: «لا تسأليني كيف أغزلُ، في قلبِ الظلامِ/ كنزتَكِ الصوفيَّةَ للشتاءِ القادمِ/ فأنا أعرفُ، قطبةً قطبة، أماكنَ البردِ في وحدتِك» وبالحسِّ ذاته يُؤنسنُ الأشياءَ والذهنيَّات ويؤنثها غالباً: الذكريات، القهوة، الأقدام، الندم... لينفخ فيها روحاً، هي روح الشاعر نفسه، فحين يكتب عن حياة الأشياء، فأنه يحاول تدوين حياته من خلال استعارة حياة كامنة في تلك الأشياء. بل أن الأغلبية الصريحة من عناوين قصائده تتكوّن من كلمة واحدة مجرَّدة من «أل التعريف»: ذكريات، سكون، جناح، سفن، قهوة، شجرة، غموض، نزهة، قلعة، سفر... وغيرها كثير وكثير. وما القصيدة سوى تعريفات، أو إعادة تسمية ذاتية محضة لتلك الأشياء. بينما خلف كل قصيدة تقريباً ثمة حكاية، والكلمة المؤجلة داخل الحكاية كلغزٍ صغير، هي ما يمنح قصيدة عادل محمود اكتمالها على صعيد البناء، لكنها حكاية صغيرة، أشبه بحدُّوتة، وليست حكاية كبرى، ومن هنا فإن القصيدة قد تنتهي بسطرين أو صفحتين، إذ تبقى محكومة بفكرتها، وبهذا المعنى يمكننا ملاحظة أنه شاعرُ نَفَسٍ قصير. لكن ما أن تحاول قصيدته أن تستطيل قليلاً لبضع صفحات كما في «القصيدة المسمارية» مثلاً، فإنها تنداح بدلاً من أن تنمو، وتنشغل في مخاطبات ونداءات استطرادية، لنعرف أنه يخاطب الماضي، في أنسنة أخرى، لكن تلك الكلمة الأخيرة، المؤجَّلة عادة في القصيدة تبزغ مشكِّلة دهشة لافتة أحياناً، فيما تأتي في أحيان أخرى تقليدية في جملة تجعل من المتوقَّع بارداً وعادياً معاداً: «لم يكن ذاهباً إلى الحرب/ بل كان ذاهباً.../ إلى الحب». هذه الاستطالة الصعبة ستغدو مُتاحة في قصيدة «فجأة شاعر يتقدَّم في السنّ» لكونها مبنية على المقطعية وتعدَّد الأصوات: صوت الأنا، صوت المخاطب، ثم صوت الغائب. ففي العشرين ثمة المرأة، وفي الخمسين وما بعدها ثمة الطبيعة! والوصول إلى فردوس الطبيعة، هو تعبير عن العود الأبدي، بعد رحلة شاقة في مدينة أو مدنٍ، لم تثبتْ قدرتها على مجاراة النزوع إلى الخلود: «عائدون/ نحن ذاهبونَ إلى الماضي/ إليه: ذلك البيت الحنونُ الخفيف». قصائد مكتوبة بدُربةٍ وفِطنة منجزة وموروثة وإن من تراث الشاعر نفسه، فليس ثمة اهتمام بالتجريب أو خروج على «الطريقة» فإحداثيات قصيدته واضحة له تماماً وهو وضوح سيقع عليه القارئ بالقدر نفسه. فهي لا تقوم على شعرية من كيمياء العبارة إنَّما على شعرية البناء العام للقصيدة، تلك الفكرة التي تتحرك بانسياب متوقَّع مخلِّفةً أثراً يشبه ابتسامةً خفيفة في محفلٍ ضاج. أيضاً ثمة غناء أشبه بالهمس لهدهدة النفس وأقرب إلى الإيماء والمواويل الداخلية، إنه الماضي لكنه لا يرتطم بقوة داخل الشاعر، وإنما بترجيع سلس على ترسلٍ وتأنٍ واضحين، لذا فما من دوَّي في تلك الاستعادة: «جِدْ لِنَفْسِكَ مَقْعَداً في حديقةِ الْمَاضِي/ واجلسْ، كما لو أنَّكَ تَنْتَظِر الذينَ تحبُّهمْ...» «ما منْ أحدٍ يعرفُ/ كيفَ يغصُّ الإنسانُ بقهوة/ على بُعْدِ أمْيَالٍ من... الزمن!!». وبالرغم من أن قصائد «أنا بريء كسراب» هي مختارات من دواوين شتى إلا أنَّها تأتلف في مناخ واحد وتأتزر مع بعضها، فقصائد «العدو» و «الاستقبال» و«إجازة» وهي من ديوان «انتبهْ إلى ربَّما 2006». تبدو وثيقة الصلة مع قصائد القسم الأول المكتوبة حديثاً. وبما أن «المكان مغلق لإصلاح الزمن» و «الأوطان فضيحة» فإنَّ فكرة «الأعمال الكاملة» التي تشبه قلعةً قديمةً، تخيف الشاعر أكثر، لأنها عُرضةٌ للانهيار. ولذا يكتفي بالانزواء في «بيت» وربما غرفة في قرية بعيدة!