نشرت الحكومة الأردنية برنامجها التنفيذي لعام 2010 في الصحف، وقد أثار ذلك حواراً واسعاً في وسائل الإعلام أظهر مستوى معقولاً لدى الرأي العام في إدراك الاحتياجات والأولويات وأكد مقولة سابقة بأن إدارة الموارد العامة لم تعد شأناً متخصصاً، وأن فرص الخروج من الأزمات كبيرة وممكنة مهما كانت تبدو صعبة. وقد لفت سمير الحباشنة (عضو مجلس الأعيان ووزير الداخلية السابق) الاهتمام بمجموعة من الملاحظات والمعلومات بالغة الأهمية، والتي تساهم في موضعة الحوار الداخلي حول قضايا الضرائب والموارد العامة في الموقع الصحيح، وكما يفترض في كل المجتمعات والدول والتي بقينا استثناء منها لعقود طويلة، وخسرنا بذلك فرصة عظيمة للمشاركة العامة وترشيد الأداء الحكومي والمجتمعاتي والشركاتي. يقول الحباشنة إن حجم التهرب الضريبي لا يقل عن ألف وخمسمائة مليون دولار، وهو رقم هائل بالنسبة للاقتصاد الأردني والموارد العامة، وفي الوقت نفسه فإن تشريعات وسياسات تشجيع الاستثمار والتسهيلات الضريبية عادت بعبء كبير على الشريحة العظمى للمواطنين، وجعلت كثيراً من المرافق والخدمات الكبرى لصالح فئة متميزة. والواقع أنها مناسبة لمواصلة الكتابة فيما تقدمه المقارنة بين تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية وبين البرامج الرسمية العربية للعمل وأخبار المسؤولين وتصريحاتهم والأداء الحكومي الممكن التعرف إليه من متابعة النشر العام في وسائل الإعلام أو التقارير الصادرة عن المؤسسات الرسمية، والتي تؤكد مجموعة من الأفكار والملاحظات مفادها أن لدى المجتمعات والناس اليوم وعي واضح بالاحتياجات والمشكلات والأولويات والموارد والفرص المتاحة والتحديات الحقيقية القائمة، وأن ثمة فرقاً كبيراً بين وعي الحكومات ووعي الناس للأولويات والاحتياجات. وبالطبع فإنها مبادرة جميلة ومهمة أن تتقدم الحكومة ربما للمرة الأولى في الأردن والدول العربية إلى الرأي العام بخطتها المفصلة للأعمال موزعة على محاور رئيسة، هي تطوير القطاع العام، والمشاركة السياسية والعامة، وتحفيز بيئة الأعمال والاستثمار، وتمكين ودعم كفاءة المواطن بتزويده بالمهارات اللازمة لسوق العمل، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى وتمكين وحماية الطبقة الفقيرة، وتحسين مستوى ونوعية الخدمات المقدمة للمواطنين، ولكن القراءة التفصيلية للخطة تؤكد مقولة الفجوة الواسعة بين وعي المواطنين ووعي الحكومات، وبين ما تريده المجتمعات وتريده الحكومات. فالقارئ لبرامج الحكومة وما تعد بتقديمه ومحاكمتها إلى الأهداف المفترضة والمعلنة لا يلاحظ علاقة تذكر بينهما، ويتأكد أنها خطط قائمة على الوعود بالتنمية والإصلاح والحريات وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وتمكين الطبقات الوسطى والفقيرة، وأن الحكومة في حقيقة الحال سيقتصر عملها على تصريف الأعمال وتسيير المؤسسات، وتجاهل مواضع النزف والهدر والموارد الكبيرة أيضاً، وأنه لن يَحدثَ تغييرٌ إيجابي يمكن توقعه نتيجة هذه الخطط على مستوى حياة الناس والخدمات التي يحصلون عليها، طالما أن الحكومات ستواصل الخوف والتردد من المساس بمصالح ومكتسبات فئة تتمتع بمعظم الموارد، وفي الوقت نفسه تبدي جرأة كبيرة على نسيان/ تجاهل الطبقات الوسطى، وإن كانت تقول غير ذلك. هذا السلوك الإعلامي ليس ما يحتاجه المواطنون، وأظن وأرجو أن أكون مخطئاً في ظني، أن ثمة عقلية تحرك السياسات والسلوك الحكومي القيادي تقوم على الاستيعاب الإعلامي للمسائل والقضايا، وتحاول تهدئة الناس في الوقت الذي لم تقدم الحكومات برامج وأفكار وتوجهات واضحة وعملية ومقنعة لترجمة الاحتياجات والتحديات الواضحة والمحددة في تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية وتحويلها إلى خطوات تنفيذية تبين بوضوح إنجازات عملية ومحددة وقابلة للقياس. فعندما تتحدث الحكومة الأردنية عن نيتها تقديم مائة شقة سكنية للفقراء، وبرنامج لزيادة دخل 950 أسرة، في الوقت الذي يقدر فيه عدد الأسر الفقيرة التي تحتاج إلى مساكن ملائمة بنصف مليون أسرة، فإنما تتحدث عن برنامج لإسكان الفقراء بكفاءة ضئيلة لا تستحق الذكر، ويمكن أن تؤديه شركة أو بلدية متوسطة الحجم، وعندما تتحدث عن زراعة مليون شجرة حرجية في الوقت الذي تقل مساحة الغابات عن 1 في المئة أي أنها بحاجة لزراعة بليوني شجرة على الأقل فكأنما تتحدث عن برنامج يحتاج إلى ألفي سنة لتصل نسبة الغابات إلى الحد المطلوب، وتتحدث عن مشروع يمكن أن تحققه جامعة أو مدرسة ثانوية كبيرة، وهي في الآردن تعد بالمئات. وهكذا فإن النتيجة الوحيدة التي يحصل عليها المواطن من متابعته خطة الحكومات هي فقدان الأمل في جديتها/ قدرتها على مواجهة التحديات، وأن ما تملكه مجرد اقتراحات وأفكار عامة بلا محاكمة إلى الاحتياجات والأولويات الحقيقية، والفرص والتحديات القائمة، والقوة والضعف في القطاعات والأعمال والمجالات المستهدفة. لماذا تتحول الحكومات عندما تريد إلى جمعية خيرية، وفي حالة أخرى تصر على تكرار القول بادعاء ومن دون مناسبة أنها ليست ملزمة بالشعبوية؟ الحكومات تبدو مهتمة بالمساعدة المباشرة لعدد من الأسر والفقراء، ولا تريد أن تلاحظ أثر السياسات الضريبية التي اتبعتها وفرضتها بقانون موقت على الفقراء والأعمال والمجتمعات، ما المبالغ التي أعفيت منها البنوك والشركات الكبرى؟ وكم تؤثر ضريبة المبيعات التي تتوسع في تطبيقها على الناس والفقراء والمجتمعات والاستثمار؟ نصف الخطط يفترض أن يقوم على المشهد الأساسي القائم والمزود بالمعلومات والإنجازات والمشكلات والموارد المتاحة والممكنة، ونصفها الآخر يقوم على الرؤية، لما نريده ونرغب به وفرص وإمكانات ووجوب تحقيقه والمبررات الواقعية والمنطقية لما نريده ونتطلع إليه، وهو ما لم تفعله الحكومات العربية ولم تقدمه خططها التنفيذية. والتقدم الحقيقي الفعلي هو ببساطة يقوم على مستوى القدرة الواعية والمحددة على الإدراك للفرق بين الواقع القائم وما نتطلع لتحقيقه، والخطة هي تجسير أو تقليل هذه الفجوة بين الواقع والمأمول، وهذا بالضبط ما نحتاج أن تقوله لنا الحكومات، وهذا بالضبط ما لم تفعله أو لا تريد أن تفعله. وقد عادت الزراعة من جديد لتكون القضية الرئيسة الكبرى للعالم، وقد رأينا بوضوح كيف أن الغذاء يمثل التحدي الرئيس للعالم، وأن الزراعة والصناعات الغذائية تحولت لتكون مدخل التقدم والإجماع الوطني والثقافة والفنون والآداب، باعتبارها القضية الوطنية الكبرى الجامعة للناس والتقدم والتراث، وكانت مدخل التقدم الهائل لدولة مثل تشيلي، وهي تشبه في مواردها وظروفها معظم الدول العربية. ويمكن بوضوح ملاحظة أن التصحر يلتهم الأرض والموارد، ذلك أنه على رغم إمكان تحويل البحار والبوادي والجبال العربية إلى غابات ومراعٍ وحقول توفر الغذاء لجميع العرب ولجزء كبير من العالم، وأن تكون هذه الموارد المعطلة مصدراً للتنمية والتقدم وتوفير الغذاء والدواء... والصادرات أيضاً. والمطلوب لتحقيق ذلك واضح وعملي وبسيط أيضاً، الاهتمام بالزراعة لتشكل نسبة معقولة من الاقتصادات الوطنية العربية، ولتستوعب قطاعاً كبيراً من العاملين من المزارعين والعمال والمهندسين والتقنيين الزراعيين، وتستطيع الحكومات أن توفر الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي للمزارعين والعمال، وبذلك تثبتهم في مزارعهم وبلداتهم، وتمنحهم أماناً صحياً واجتماعياً. وتستطيع جموع الشباب والمتطوعين والشركات الكبرى التي تربح الكثير ولا تشارك إلا بالقليل في المسؤولية الاجتماعية تنظيم حملات كبرى للتشجير في الجبال والبوادي لتتحول إلى غابات ومراعٍ. نسبة الغابات في الوطن العربي تراوح حول 1 في المئة وهذا واقع مخزٍ، وهي في السويد 70 في المئة وتنتج شركة إيكيا السويدية من الصناعات الخشبية أكثر مما ينتج العرب جميعهم بما فيهم الدول النفطية، وليس ما يمنع أن تتحول الغابات في الوطن العربي إلى بيئة من الأعمال والصناعات، وتطور المراعي لتشكيل بيئة من الثروة الحيوانية تكفي الاحتياجات الغذائية والتصديرية أيضاً... كل ما نحتاجه فقط هو حسن النية. والأمر يشمل جميع الوزارات والمؤسسات والقطاعات والاحتياجات، وأعتقد أن بمقدور كل عربي اليوم أن يشكل خريطة واضحة وحقيقية للواقع القائم والمشكلات والحلول أيضاً، وإذا كانت الحكومات تسيء تقدير ذكاء الناس فتلك مصيبة، وإذا كانت تعرف وتتحداهم في الوقت نفسه فالمصيبة أعظم! هناك بالطبع إنجازات وقفزات تنموية كبرى في بعض الدول العربية، ولكنها للأسف الشديد نجاحات محدودة تكون كبيرة عند النظر إلى مستوى دولة ما ولكن بالنظر إليها على مستوى إقليمي فإنها تضيع، وأعتقد أنه لا مفر من النظر إلى المنطقة العربية باعتبارها إقليماً جغرافياً متواصلاً ومتشابكاً مع بعضه، بل إن أوروبا تنظر إلى نفسها شريكة مع دول المتوسط لأجل الأسواق والمصالح والأمن والاعتدال، وربما لأجل ذلك أسندت الأمانة العامة لمنظمة الاتحاد لأجل المتوسط (43 دولة أووربية ومتوسطية) للأردني أحمد المساعدة. * كاتب أردني.