لأنّ النّيل ظلّ منذ آماداً بعيدة مصدراً من مصادر التنوّع الثقافي والاجتماعي، ولأنّه استطاع خلال مسيرته في تاريخ الشعوب من تحقيق التآلف بين العقائد والثقافات والأعراق، فإنّه يمثّل للخرطوم، وهي ملتقى فرعيْه الأبيض والأزرق، فرصةً لتُحاكي مسيرتَه عبر احتفالية ثقافة كبرى صورتُها الدورة الحادية عشرة لمعرض الكتاب الدولي في أرض المعارض في ضاحية «بَرّي» (من 17 إلى 29 الشهر الجاري) وبمشاركة 267 دار نشر محلية وعربية تعرض ما يناهز المليون كتابٍ علميٍّ وثقافيّ وأدبيّ، إضافة إلى كتب الأطفال والكتب البحثية الجامعية. واللافت في هذه الدورة التي حملت شعار «الخرطوم تقرأ، تحاور، وتبدع» أمورٌ عديدةٌ لعلّ منها تقديم وزارة الثقافة تسهيلات كثيرة للعارضين ورهانها على التنويع من الفعاليات الثقافية المصاحبة بغرض فتح آفاق جمهور القرّاء على أسئلة عالم الكتابة وصناعة الكتاب، وإتاحة الفرصة لهم للتواصل المباشر مع المبدعين والناشرين، إضافة إلى حضّهم على فعل القراءة وجعله عادة من عاداتهم اليومية عبر سبيل التخفيض من أسعار الكتب والتنويع من مضامينها. وتأتي هذه الدورة الجديدة، على حدّ ما ذكر الطيب حسن بدوي، وزير الثقافة في الحفل الافتتاحي، باعتبارها مفردةً من مجموع مفردات حراك ثقافي يعيشه السودان الآن، ومنها انطلاق مشروع احتفالات «الجنينة» عاصمة للثقافة السودانية و»كادوقلي» عاصمة للتراث السوداني و»سنار» عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2017. وفي هذا الشأن أكّد سيد هارون، وزير الدولة للثقافة، الحرص على جعل معرض الكتاب فرصة مائزة لتتضافر منجزات مبدعينا العرب الفنية والفكرية من أجل خلق وعي عربي تحتاج إليه شعوبنا في مسيرتها الراهنة ينهض على قيم التسامح والانفتاح والإيمان بالقيم الكونية والعودة إلى الذّات عودة واعية لمزيد تأصيلها في تربتها الثقافية من خلال جملة التظاهرات الثقافية والتراثية التي بُرمجت خلال هذه الدورة وخُصّصت لها فضاءات الأندية الثقافية والمسارح والجامعات وقاعة الشارقة وتوزّعت على مجالات المسرح والغناء الشعبي والشعر الزجلي. وحضر اسم الشاعر الراحل محمّد الفيتوري في معرض الكتاب من خلال اختياره شخصية العام الثقافية وإقامة ندوة احتفائية بمنجزه الشعري دُعي إليها أفرادٌ من عائلته ونُخبة من أصدقائه الذين قدّموا شهادات شخصية وثّقوا فيها مسيرته الإبداعية، ونوّهوا ضمنها بانصباب نصوصه على معيش المواطن العربي بكل هواجسه الاجتماعية والثقافية والقِيَمية، ما جعل من شعره أفقاً حضارياً يتجاوز السودان ليعانق كلّ ما هو إنسانيّ فينا. ولم تنسَ الجهات المنظِّمة تكريم الفنان شرحبيل أحمد وإحياء ذكرى الشاعر الشعبي الراحل محمد الحسن حميد ضمن نشاطات المقهى الثقافي في المعرض. ومن النشاطات المصاحبة لمعرض الكتاب حفل توقيع رواية «اللحن المفقود» للروائي السوداني أسامة رقيعة في قاعة الشارقة، تحدّث فيها بعض النقاد والإعلاميين عن مضمون هذه الرواية وبخاصة ما فيها من احتفاء بالمكان، حيث انحازت هذه الرواية إلى مكانها وإلى منظومة أخلاق مجموعتها الاجتماعية. وانصبّت على اليوميِّ القرويِّ، قرأته بتمَعُّنٍ وساءلته بإمعانٍ: كيف يمكن أن نعيش معاً بكل اختلافاتنا؟ ولم تُخْفِ الروايةُ اجتهاداتِها في صوغِ هذا اليوميِّ صوغًا فنيًّا كاشفةً عمّا اهترأ فيه من سرديات العيش معاً، وفكّكت أسباب ذلك: فكّكت ذهنيةَ ساكنِ المكان وذهنيةَ المكان وطبيعةَ التواصل بين الساكن والمسكون، ومنتهى غايتِها تأصيلُ بلاغة اجتماعية جديدةٍ تمنع الواقع من الانحراف والسقوط في الجُرُفِ الهاري، في ذاك اللاإنساني، وهي بلاغة تمثّل سبباً أخلاقياً هو واحدٌ من الأسباب التي تُرَغّب أهلَ القرية في مواصلة الحياة معًا. وفي ندوة حول واقع النشر العربي وأسئلته التي حضرتها مريم الشناصي، رئيسة جمعية الناشرين الإماراتيين وعاصم شلبي، رئيس الناشرين العرب، تمّ الحديث عن ضرورة توفير تسهيلات مادية ومعنوية للناشرين حتى يتمكّنوا من وسائل حسن توزيع الكتاب داخل فضائه العربي، ومساعدة القرّاء والمبدعين على تعرّف نتاجات بعضهم بعضاً. وأشار شلبي إلى أنّ الخرطوم تشهد حراكاً ثقافياً متميزاً من جهة جمعه بين الثقافة الأفريقية والثقافة العربية الإسلامية جمعًا أليفًا. وفي هذا السياق، شاركت بيروت والأردن وسورية في المعرض عبر أجنحة لها، لأوّل مرّة بعد انقطاع دام سنواتٍ. ومثلما حضر اسم الشاعر محمد الفيتوري في معرض الخرطوم الدولي للكتاب، حضر صاحب «موسم الهجرة إلى الشمال» ضمن «جائزة الطيّب صالح العالمية للإبداع الكتابي» في دورتها السادسة ليكون جسرًا تتلاقى عليه الإبداعات العربية بغية ربط السودان بفضائه الكتابي العربي. وهذا ما أكّده الفاتح عروة، العضو المنتدب لشركة «زين» الراعية للجائزة، وأعلن في هذا الإطار أنّ الشخصية التي ستحتفي بها جائزة الطيب صالح لهذا العام هو الشاعر عبدالله شابو. ومن جهة أخرى، بيّن أن من أهداف الجائزة طباعة الكتب الفائزة بأعداد وفيرة، حيث تمّ إصدار أربعين كتاباً من الكتب الفائزة في الدورات السابقة. وأشار مجذوب عيدروس، الأمين العام للجائزة، إلى تنامي المشاركات في النسخة السادسة للجائزة، سواء من حيث عدد النصوص أو من حيث عدد البلدان، وقد توزعت على مجالات ثلاثة هي الرواية والقصة القصيرة وأدب الطفل. يذكر أنه تم تعديل في القيمة المالية للجائزة في دورتها السادسة لتصبح قيمة الجائزة الأولى 10000 دولار والثانية 8000 والثالثة 6000 دولار.