بعد مرور ربع قرنٍ على معرض الفنان الروسي الكبير فاسيلي كاندينسكي (1866-1944) في مركز بومبيدو (باريس)، ها أن القيّمين على هذا الصرح الفني العريق يعيدون الكرّة اليوم عبر تنظيمهم معرضاً جديداً لهذا العملاق يمكن اعتباره الأهم منذ وفاته، من دون مبالغة. فمقارنةً بمعارضه السابقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي تناولت في كل مرّة أحد جوانب فنه أو إحدى مراحله، يشكّل المعرض الراهن فرصةً للاطلاع على مسار الفنان الذي أُعيد تشكيله من خلال أهم لوحاته، الأمر الذي يبيّن مساهمته الكبيرة في انبثاق الفن الحديث وعملية انتقاله من الأسلوب التصويري إلى التجريد، ثم التطوّرات اللاحقة لهذا الأسلوب التي تعكس تماسكاً مذهلاً في الأفكار التي اختبرها يومياً في عمله وتورّطه الكبير في تاريخ عصره. تكمن خصوصية كاندينسكي أولاً في تأمّلاته النظرية التي واكبت سيرورة إبداعه. وأحياناً، استبق هذا العملاق بنصوصه الشهيرة، مثل نص «روحانيةٌ في الفن، وفي فن الرسم خصوصاً» (1912)، تطوّرات لم يختبرها في لوحاته إلا لاحقاً. وسمح اشتراك متحف غوغنهايم الأميركي وغاليري «ستاديش» الألمانية في تنظيم هذا المعرض بجمع معظم هذه الكتابات والأبحاث داخله، اضافة إلى رسائل الفنان وعددٍ كبير من صوره الفوتوغرافية. وسمح هذا التعاون بين المؤسّسات الفنية المذكورة، التي تملك أكبر ثلاث مجموعات من أعمال كاندينسكي، بتغطية كل مراحل فنه. فمجموعة غاليري «ستاديش» تضم الأعمال الباكرة التي حققها الفنان في ميونخ ومورنو حتى عام 1914. وتتألف مجموعة مركز بومبيدو من أعمال مهمة أنجزها كاندينسكي خلال أعوام الثورة الروسية، وأخرى من حقبة «باوهاوس» التي تمتد حتى عام 1933، ومن الحقبة الباريسية. أما مجموعة متحف غوغنهايم فتضم أبرز لوحات السنوات الباريسية مع لوحات تعود إلى ما قبل عام 1914. خلال السنوات التي أمضاها كاندينسكي في ميونخ ومورنو داخل مجموعة «بلو رايتر» (1896-1914)، حقّق في البداية دراساتٍ وفقاً إلى الطبيعة بأحجامٍ صغيرة، ثم انتقل إلى أحجامٍ كبيرة تحرّر فيها تدريجاً من الأسلوب التصويري. وفي الوقت ذاته، أنجز انطلاقاً من عام 1900 لوحات ملوّنة ذات خلفية معتمة استحضر فيها مشاهد تعود إلى ماضٍ خيالي عبر استعانته بنماذج (motifs) روسية قديمة. وسمحت تجربة الفنان في مورنو، انطلاقاً من عام 1908، بتحرّره من اللون وبتحقيق أعمالٍ غايتها إحداث انفعالٍ مباشر على متأمّلها، مثل النوتات الموسيقية. لكن كاندينسكي لم يتخلّ كلياً في تلك الحقبة عن الرسم التصويري بل سعى، بواسطة عناصر تصويرية متبقّية، إلى إظهار وجود واقعٍ «روحاني» خلف مظاهر الواقع. وآنذاك، قسّم لوحاته إلى ثلاثة أصناف: الانطباعات، اللوحات المرتجلة والتشكيلات. ويُمثّل الصنف الأخير الحصيلة الكاملة بين انطباعاتٍ خارجية وأخرى داخلية، يتّحد داخلها التخيّل والعفوية بتشييدٍ فني مضبوط. وخلال السنوات الروسية (1915-1921) التي وقعت خلالها الحرب العالمية الأولى والثورة في موسكو، شهدت حياة كاندينسكي تحوّلاً مهماً. إذ شارك في سيرورة انبثاق مجتمعٍ جديد عبر انخراطه في تنظيماتٍ سياسية - ثقافية استهلكت الكثير من طاقته ووقته. ومن دون أن يرتبط مباشرةً بحركتَي البنّائية والتفوّقية الروسيتين اللتين أسّستا لفنّ ميكانيكي صاف، استبدل الفنان نهائياً في تلك الفترة النماذج التصويرية المتبقّية بأشكالٍ هندسية صافية داخل لوحاته. وخلال السنوات التي عمل فيها كأستاذ في معاهد حركة «باوهاوس» في فايمار انطلاقاً من عام 1922، ثم في داخاو حتى عام 1933، بدأ كاندينسكي في دروسه التطبيقية بتحويل مفردات أشكاله الهندسية (الخط، المثلث، المستطيل والدائرة) إلى منهج، وخصوصاً الشكل الدائري الذي رأى فيه رابطاً قوياً مع الكون. وفي هذا السياق، تبيّن لوحته الشهيرة «أصفر – أحمر – أزرق» (1925) التي تندمج داخلها عناصر متضاربة، التنوّع والكثافة في الروابط الشكلية النموذجية لاختبار الفنان الإمكانات التي لا تُحصى للتجريد. وفي طريقة عمله على المسطّحات، وفي خياره للألوان وتركيبه للأشكال، تتجلى داخل لوحاته «عوالم» صغيرة وكبيرة ترتعش بشهوانيةٍ كبيرة، على رغم تقليصها إلى أشكالٍ هندسية. أما الأعمال التي أنجزها انطلاقاً من عام 1933 في باريس فنكتشف داخلها بنياتٍ عضوية جرثومية هي كناية عن عناصر معلّقة في الفراغ، حيّة وغير تصويرية في آنٍ واحد، تعكس مشروع كاندينسكي المضاد الذي سعى فيه إلى مقابلة «قوانين الطبيعة» بقوانين الفن «الملموس» الذي رأى فيه عالماً مستقلاً ومعادلاً للطبيعة. وتصدمنا الألوان المستخدمة في هذه اللوحات بطابعها الاصطناعي (الزهري، الأزرق الفيروزي، الخُبّازي والذهبي) التي فسّرها النّقاد كاستحضارٍ متعمَّد من الفنان لأصوله الروسية ولألوان عالمه الثقافي الشرقي. وحتى في آخر لوحات حققها قبل وفاته، تمكننا ملاحظة مبادئ مقابلة التناقضات وتوازنها التي تمتد كخيطٍ مرئي يربط كل أعماله.