لا تزال أزمة دارفور مشجباً تعلق عليه جهات خارجية عدة إخفاق تقديراتها مع الحكومة السودانية، وتستثمرها قوى وأحزاب داخلية لتصفية بعض الحسابات المحلية. وهي أيضاً أصبحت بوابة تدخل منها دوائر إقليمية لحصد مجموعة من المكاسب السياسية. في الأولى، جرى التهرب من المسؤولية الجماعية، عبر تحميل الخرطوم وحدها المأساة الإنسانية التي شهدها إقليم دارفور، بل وتوظيفها سياسياً وجنائياً لتطويق النظام السوداني. وفي الثانية، سارعت أطراف قريبة وأخرى بعيدة لإيجاد موطئ قدم ضمن العناوين العريضة التي رشحت في شأن التسوية، إما رغبة صادقة في تخفيف حدة التداعيات السلبية، أو طمعاً في حرمان بعض الوسطاء من قطف أي ثمار سياسية. وساهم استخدام الأداتين السابقتين في مزيد من تعقيد الأزمة، التي تصاعدت بفعل مواصلة الأخطاء وتراكم المشكلات. في هذا السياق تتكشف ملامح كثيرة تساعد على فهم ما بدا كأنه مفاجأة خلال الأيام الماضية، حيث تم توقيع اتفاق إطار بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة في الدوحة في 23 شباط (فبراير) الماضي، في حين فشل الوسيط القطري على مدار أربعة أسابيع تقريباً من المشاورات مع فصائل دارفورية في الوصول إلى توافق حول الحد الأدنى لرؤية سياسية موحدة بينها. وعندما بدت الأمور تسير في طريق الانسداد الكامل انفرجت، من دون مقدمات واضحة أو إشارات قاطعة، بالإعلان عن توقيع اتفاق إطاري يقضي بوقف إطلاق النار في دارفور ويمهد لمفاوضات لاحقة بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة. وسبقه بأيام قليلة توقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق نفسه في نجامينا. تتمثل المفاجأة في هذه الخطوة في عنصرين: أحدهما، اختيار نجامينا وليس الدوحة للإعلان للمرة الأولى عن الاتفاق الإطاري. فكل المقاطع الظاهرة لمشهد التسوية كانت تجرى في الدوحة. ما يعني أن من غير المستبعد أن تتحول تشاد إلى جزء من سيمفونية الحل المقبل، الذي هو في الأساس سيكون جزءاً من سيناريو إقليمي. ومع أن طبقاته السفلية لم تكتمل بعد، غير أن طبقاته العليا ظهرت مؤشراتها في التقارب السريع الذي حدث بين الخرطوم ونجامينا، وأكد فحوى التقارب أهمية حدوث درجة متقدمة من الهدوء والاستقرار على جانبي الحدود بين السودان وتشاد. والعنصر الثاني يخص دخول حركة العدل والمساواة إلى طاولة التوقيع على الاتفاق من دون مفاوضات مباشرة ومعلنة مع الحكومة السودانية. وهو ما يشير إلى أن هناك قوة دفع خارجية استخدمت وسائل إغراء معينة أو أدوات ضغط محددة أو الاثنتين معاً لتخرج بهذه النتيجة. ومن مصلحتها الإيحاء بدوران العملية السياسية في دارفور. من خلال هذه العملية، تتمكن بعض الأطراف القريبة من الحل أو المنخرطة فيه، من تحقيق أهداف حيوية عدة. فحزب المؤتمر الوطني الحاكم لديه سلسلة من المشاكل التي يمكن أن تؤثر في حظوظه السياسية في المستقبل، في ظل المعاناة المترتبة على خلافاته البينية مع شريكته في الحكم، الحركة الشعبية، والتي أضحت تستثمر استمرار أزمة دارفور لتأكيد صدقية شكوكها في عدم جدية شريكها لاستكمال تطبيق اتفاق نيفاشا. وتمعن الضغط وتتفنن في تنويع مصادره لتحقيق أقصى استفادة من ورقة الانتخابات الرئاسية والعامة. وتدرك طبيعة المخاطر التي سببها تعزيز تحالفها مع قوى المعارضة السودانية المختلفة. وكلها عوامل تضاعف من الحرج السياسي الذي يواجهه حزب المؤتمر الوطني. لذلك من مصلحة قيادة الحزب تفتيت هذه العصافير بحجر دارفور، والتجاوب مع الإشارات التي تلقتها من تشاد والتطمينات التي وصلتها من قطر والتلميحات التي جاءتها من الولاياتالمتحدة، لتحقيق إنجاز سياسي لافت في أزمة شغلت العالم. إنجاز يمكّن حزب المؤتمر الوطني من الحصول على تعاطف من بعض الجهات الدولية، أو على الأقل يوقف زحف هذا التعاطف إلى صف المعارضة، التي تزايدت مطالبتها بضمانات للنزاهة ووعود بالشفافية في العملية الانتخابية، حتى تحولت إلى صداع مزمن، يمكن أن ينفجر معه رأس النظام السوداني. فالرئيس عمر البشير يخوض الانتخابات الرئاسية في نيسان (أبريل) المقبل والطريق إليها أصبح محفوفاً بجملة تحديات وعرة، تفرض عليه السعي الى تسكين أكبر عدد من المشكلات والأزمات، التي يمكن أن تمثل مدخلاً لقلب بعض التوازنات الهشة. أما حركة العدل والمساواة، فقد أرادت التأكيد أنها الرقم الصعب الوحيد في معادلة دارفور، وأي تسوية في الإقليم يجب أن تمر من خلال بوابتها، وأن العبرة بالنفوذ والتأثير لا بالكلام والصياح والصراخ. وفي هذا المجال استفادت الحركة من التعثر الذي لازم مشاورات الدوحة وصعوبة التفاف الفصائل الأخرى، من مجموعة أديس أبابا وحتى مجموعة طرابلس ومروراً بمجموعة غرايشن التي تشكلت في نجامينا، حول رؤية أو صيغة متقاربة لتصل حركة العدل والمساواة إلى غرضها المعلن الخاص بضرورة التعامل معها باعتبارها الوعاء الجامع لمطالب أهالي دارفور. وفي الوقت ذاته تتجاوز أحد أبرز مطبات التسوية في الإقليم، والتي تتعلق بالمشاكل التي تسبب فيها تنوع المشارب والولاءات وتعدد الأصوات والانتماءات، ومحاولة تكرار مشهد التسوية في جنوب السودان، عندما تم تهميش الفصائل كافة والتفاوض فقط مع الحركة الشعبية، بحسبانها الممثل الوحيد للجنوب. من جهة ثانية، أشار اتفاق الدوحة إلى ما يشبه التغير النوعي في قراءة الولاياتالمتحدة للأوضاع في السودان. فمنذ تعيين سكوت غرايشن مبعوثاً أميركياً إلى هذا البلد وغالبية تحركاته وجولاته تتجه نحو التركيز على الجنوب. وتكفي الإشارة إلى أنه قام بحوالى عشر زيارات إلى جوبا وحدها، بينما لم تتعد زياراته لدارفور نصف هذا الرقم، مع أن تعيينه تزامن مع بلوغ أزمة دارفور ذروتها الإنسانية والسياسية، لأن هدف واشنطن الرئيس الحفاظ على اتفاق نيفاشا حتى يستكمل حلقاته وليس السعي إلى تسوية جديدة غير مضمونة في دارفور. لكن عقب اشتداد الخناق حول رقبة حزب المؤتمر الوطني رأت واشنطن أن أسلوب المسكنات الذي غلب على معظم توجهاتها مع الخرطوم ربما يضر بالهدوء في الجنوب، بعدما تبين أن حزب المؤتمر يتخذ نار دارفور ذريعة لتعطيل بعض القضايا الخلافية مع الحركة الشعبية. من هنا اتجهت جهود غرايشن نحو تحريك المياه السياسية الراكدة في الغرب لنزع فتيل هذه الذريعة والحفاظ على اتفاق السلام في الجنوب. وبدأ المبعوث الأميركي يغير لهجته حيال مشاورات الدوحة. وينتقل من وصفها «حملة علاقات عامة» إلى التشديد على أهميتها في جلب الأمن والاستقرار لإقليم دارفور. إذا كانت هذه العوامل تصلح كمدخل للتفسير، فإنها تبدو غير كافية لنقل الاتفاق الإطاري من المربع النظري إلى خانة التطبيق، حيث افتقر اتفاق الدوحة إلى الآليات اللازمة لتنفيذه على الأرض. كما تجاهل عن قصد الكثير من القضايا المركزية (المشاركة في السلطة وتقسيم الثروة) وجعلها مفتوحة على شيطان التفاصيل. وترك المسألة برمتها لمرحلة تالية من التفاوض، سيتوقف حدوثها على طبيعة الأجواء الايجابية التي وفرها اتفاق الدوحة، وحاجة بعض القوى الإقليمية والدولية إلى ضخ دماء جديدة في عروق التسوية الشاملة في دارفور. أعاد مشهد الاحتفال بتوقيع اتفاق الدوحة (الإطاري) والرهان على نجاحه إلى الأذهان اتفاق «حسن النيات»، الذي تم توقيعه في الدوحة أيضاً في شباط (فبراير) من العام الماضي، وظل حبيس الأدراج من دون أن تكون له انعكاسات حقيقية على الأرض. كما أن الآثار السلبية التي خلفها اتفاق أبوجا بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان، جناح منى أركوي ميناوي، في أيار (مايو) 2006، عالقة في ذاكرة قيادات كثير من الفصائل الدارفورية، لما سببته من جراح ومرارات لمناوي، جعلته يلوّح أكثر من مرة بالعودة إلى صفوف المعارضة. أضف إلى ذلك ما سببته المحاولات الرامية الى إيجاد أمر واقع على الأرض، قبل أن يدخل اتفاق وقف النار حيز التنفيذ، حيث تسابق بعض الفصائل وسارعت وحدات في القوات المسلحة السودانية للاستحواذ على مساحات إضافية، بصورة أدت إلى نشوب معارك مسلحة في أماكن متفرقة في دارفور. يقود هذا الملمح إلى نتيجتين. الأولى، ارتفاع سقف المخاطر التي ينطوي عليها توقيع اتفاق ثنائي من دون مشاركة الفصائل الأخرى، والتي يستطيع بعضها تخريب التسوية المرتقبة في الإقليم. ولعل الرفض الذي أعلنه عدد كبير منها لاتفاق الدوحة الأخير يكون كافياً للتدليل على خطورة الإمعان في التجاهل، خصوصاً أن هناك قوى إقليمية غير مرتاحة لما حدث في الدوحة، لأنها ترى أحقيتها في رعاية اتفاق من هذا النوع. بالتالي من السهولة أن يتم استخدام بعض الفصائل الرافضة كفزاعة لتخريب الاتفاق، إذا لم تتكفل الهوة الواسعة بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة بالقيام بهذه المهمة. والنتيجة الثانية، تخص تراجع الدور الذي تقوم به القوات الأممية العاملة في دارفور، في شكل لا يتناسب مع المهام التي نجحت في تحقيقها خلال العامين الماضيين. فتكرار الصدام إثر اتفاق الدوحة يعيد شبح حرب العصابات مرة أخرى في الإقليم، بما يؤثر سلباً في كل التوجهات الراغبة في التسوية السياسية. في ضوء هذه المعطيات، سيظل الاتفاق الإطاري محصوراً في شق تكتيكي مراوغ، كل طرف يستثمره وفقاً للحسابات التي تقتضيها المصالح الآنية، لأن البعد الاستراتيجي في المسألة يتطلب إجماعاً كبيراً من جهتين: إحداهما خارجية، لضمان مساندة أي اتفاق وعدم وقوعه في شرنقة المنغصات الإقليمية ومن ثم خروجه إلى بر الأمان، والأخرى داخلية، لضمان الالتفاف حول رؤية واحدة والتفاهم حول صيغة متقاربة للحل النهائي. الأمر الذي يفرض الأخذ في الاعتبار عدم إهمال القضايا الخلافية كافة، لتحاشي تداعياتها المستقبلية على كثير من الملفات السودانية. * كاتب مصري