يهرب كثير من السوريين من ويلات الحرب التي تعيشها بلادهم منذ أكثر من أربع سنوات. يفر من استطاع منهم من الموت المجاني الذي تحمله البراميل المتفجرة، أو السكين الحاد لتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، مفضلين الخيار الصعب، وباهظ الكلفة عبر شبكات التهريب إلى أوروبا. يقول لاجئ سوري (25 عاماً) يقيم في ألمانيا : «شاهدت براميل النظام وسكاكين داعش ففضلت الموت في البحر». ويضيف الشاب الهارب من مدينة قورية في دير الزور: «أنا عصبي قليلاً ولا أستطيع ضبط لساني. ولأننا نعيش تحت سيطرة داعش حيث يمكن لزلّة لسان أن تتسبب بإعدامك، خرجت... لكن داعش ليس مشكلتنا الوحيدة، فما يجري في سجون النظام أقسى من ممارسات داعش. عشرات الآلاف قُتِلوا في أقبية الأمن». يروي الشاب تفاصيل رحلة هروبه من سورية، بالقول: «كنا ستة أشخاص قررنا الخروج. على بعد ستة كيلومترات أوقفنا حاجز لداعش. لم نقل إننا ننوي التوجُّه إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. لكنهم على رغم ذلك قالوا لنا: أنتم في الطريق إلى تركيا وأوروبا... حتى أنهم رووا لنا تفاصيل من الحياة الشخصية لكل منا. قال لي أحدهم أنت فلان ابن فلان وهذا عمل والدك. إذهب حيث شئت، لكن حين تخرج، فإنك تُعتبر مرتداً وقصك (قطع عنقك) حلال. نحن نفضّل أن تذهبوا لنأخذ بيوتكم ومناطقكم». ويضيف: «عثرنا على مهرّب قال إنه يعرف آخر تركياً وسيتولى إرشادنا. كنا في أول آب (أغسطس). دفعنا للمهّرب الأول 30 دولاراً على أن ندفع مبلغاً مماثلاً للمهرّب التركي. ابتزّنا المهرّبون على الطريق، فدفعنا أضعاف هذا المبلغ. ذهبنا إلى كيليس التركية، بعدما عبرنا الأسلاك، ومنها إلى ازمير على مدى نحو تسع ساعات». في تركيا لم تكن الأمور أكثر سهولة بالنسبة للهاربين، يتابع الشاب: «قالوا إن لا رحلة من أزمير فذهبت إلى بودروم. اتفقنا مع مهرّب وسيط مع البنغاليين. شكّلنا مجموعة من سبعة أشخاص وذهبنا الى الهنود والبنغاليين وأصرّينا على المغادرة على رغم أن البحر سيّء. استأجرنا القارب ب6500 دولار». المخاطر التي تحملها الرحلة لم تكن غائبة عن أذهان الهاربين، لكن بحسب الشاب فإن «البقاء في سورية يعني الموت. هنا على الأقل نحاول... نزلنا في اليونان في جزيرة اسمها كوس حيث واجهنا أسوأ معاملة. توجّهنا إلى فندق ونزلنا في غرفتين ودفع كل واحد 30 يورو. الطعام كان غالياً. بعد ذلك نجحنا في الوصول إلى ألمانيا». ليست الطريقة الوحيدة غير أن الطريقة التي اعتمدها هذا الشاب ورفاقه ليست الوحيدة للخروج من سورية، إذ أن صفحات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل إعلانات عن وسائل لجوء مختلفة براً وبحراً وجواً. وقدمت صفحة «اللجوء إلى أوروبا» على «فايسبوك» نصائح عدة إلى راغبي الوصول إلى أوروبا عبر تركيا، بينها: «ابتعد من المهربين السوريين والعراقيين، بل العرب عموماً، فجميعهم سماسرة يعملون مع مهرب تركي أو باكستاني ومواعيدهم كاذبة، وابتعد أيضاً من تجمعات السوريين في أزمير وبودروم، إذ ربما يتم اعتقالك ونقلك الى مخيم ماردين في حال كنتم أكثر من 30 شخصاً. لا تكثر من الأمتعة، وضع أوراقك المهمة وأموالك وهاتفك في جيوبك أو في حقيبة الخصر أثناء الرحلة، فربما تضطر للتضحية بحقيبة الظهر. لدى وصولك إلى الجزر اليونانية سارع إلى تسجيل نفسك في أقرب مركز شرطة أو كامب لتسريع الإجراءات». وعلى رغم هذه النصائح، كتب شخص عرّف نفسه ب«فداء حمودي» على الصفحة نفسها: «إلى الإخوة السوريون والعراقيون، يوجد لدينا رحلات يومية من اسطنبول إلى اليونان. الرحلة من 30 إلى 45 دقيقة بحراً من نقطة الإنطلاق، عدد الأشخاص بين 35 و40 شخصاً. التأمين في المكتب الذي تختاره. الكلفة 1050 دولارا». صفحة أخرى على «فايسبوك» تسمى «تهريب السوريين طيران (جواً) لأوروبا»، وجاء في التعريف عنها: «إلى السوريين الراغبين في اللجوء إلى أوروبا عبر طرق آمنة ومضمونة. يتوفر لدينا تهريب بطيران مباشر من تركيا إلى ألمانيا وهولندا وبلجيكا». ووضعت الصفحة تسعيرة ثابتة وشروطاً محددة: «الكلفة 10 آلاف يورو. الدفع بعد الوصول عبر طرف ثالث. السفر خلال عشرة أيام من تاريخ الاتفاق». وذيلت صفحات التهريب التي يصعب حصرها، إعلاناتها بوسائل للتواصل من أرقام هواتف إلى «واتسآب». إلى جانب الشاب ورفاقه الذين نجحوا في الوصول إلى ألمانيا، آخرين لم يكن حظهم جيداً، ولم يسعفهم في الوصول إلى بلدان اللجوء على قيد الحياة، وآخرين أيضاً نجحوا، لكن الثمن كان غالياُ ومؤلماً. يروي ضابط برتبة ملازم أول (28 عاماً) منشق من المخابرات الجوية معاناته منذ خطط للفرار: «في نيسان/ أبريل 2012 حاولتُ الانشقاق، لكنهم أمسكوني على بعد مئات الأمتار فقط من المركز. حصل ذلك في حلب. اعتقلوني ورموني في السجن وكان التعذيب رهيباً. زملائي وبعض من كنت أرأسهم هم من عذبوني. جرّبوا فيّ كل أنواع التعذيب. سيخ النار، الشبح، الدولاب، بساط الريح، الكهرباء... بعد ذلك أبلغوني بأن حُكماً بالاعدام صدر في حقي وسيُنفّذ خلال أيام قليلة. تحدثتُ سراً إلى ضابط أمن في المخابرات الجوية، وقال إنه مستعد لتغيير الحُكم الصادر ضدي إذا حوّل والدي مبلغ خمسة ملايين ليرة سورية (100 ألف دولار آنذاك) باسم شخص يقيم في طرطوس. طلب الضابط ما يُشبه إعادة للمحاكمة، واعتُبرتُ بريئاً بعد أربعة أشهر وعشرة أيام من التعذيب». وعن سبب انشقاقه، يقول: «من هول ما رأيت في أقبية التعذيب. شيء مخيف ومُرعب ومقزز. حين يأخذونك من غرفة السجن إلى غرفة التعذيب تضطر إلى الدوس على جثث أشخاص ماتوا قبل وقت قصير. يكفي أن تشاهد بقع الدم المتجمّدة والجثث الممدّدة أو تسمع صراخ من تكسّرت أضلاعهم أو أطرافهم وغطى الدم وجوههم. في سجن حلب كان معدّل الوفيات اليومي بين عشرة قتلى وثلاثين قتيلاً. هذا عام 2012». ويضيف: «غادرت الأردن إلى تركيا ومنها إلى اليونان في قارب مطاطي. دفعت 1200 يورو. من اليونان سافرت إلى مقدونيا ثم صربيا، فهنغاريا. وانتهت الرحلة في ألمانيا». ويشير الضابط السابق إلى أنه لن يعود إلى سورية لأن «سورية التي أحبها انتهت. تمزّقت. حين يتوقف إطلاق النار سيكتشف العالم أن عدد القتلى أكثر من ثلاثمئة ألف». غير أن رأي الضابط المنشق لا يمثل آراء جميع اللاجئين، فهيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) نشرت تقريراً يوم الإثنين (12 تشرين الأول/ أكتوبر) يفيد بأن بعض اللاجئين اليائسين يعودون إلى سورية، مفضلين الموت في بلادهم. وتقول أم لثلاثة أطفال من درعا (جنوب سورية)، لموقع «بي بي سي»: «ليس لدي أقارب هنا (في الأردن) ولا أملك المال. الجميع بدأوا بالعودة. نحن متعبون». وتضيف: «في سورية سأجد أناساً أعرفهم وسأكون بينهم، سأكون بخير، مهما حدث». ويؤكد الموقع أن «اللاجئين في الأردن، إما لم يستطيعوا الذهاب إلى أوروبا أو أنهم لا يرغبون في ذلك، وسيذهبون في رحلة مختلفة محفوفة بالمخاطر ليعودوا إلى ديارهم في منطقة الحرب». ويضيف أن «من يرغب في مغادرة الأردن إلى سورية يعلم أنها تذكرة ذهاب فقط، حيث لا يمكنه العودة مجدداً».