بدأ موسم الغزل، واستهل فجر المدالسة، وأشرقت شمس المداهنة، والجميع يغني على ليلى بينما ليلى غارقة في تفاصيل حياتها اليومية وفسيفساء مواسمها المدرسية والشتوية والدروس الخصوصية، واحتياجات أسرتها اللانهائية، ناهيك عن زنقتها المرورية اليومية ومعاناتها وهن ضرب البنية التحتية وخلل أصاب البنية الفوقية. وبلهجة فوقية قوامها العنجهية وأطرها الاستعلائية، تنافس ضيفا الفقرة الحوارية في وصم القاعدة العريضة والغالبية العتيدة من الناخبين والناخبات «التي سبق وكادت أن تودي بالبلد في داهية» - على حد قول الأول - و «لجهل ألمّ بها وتغييب ضرب عصبها قد تدفع بنا مجدداً إلى التهلكة» - على حد وصف الثاني، وذلك في إطار التعليق على الأجواء الانتخابية والميول البرلمانية والتوقعات النيابية. ولم يهدأ الضيفان الملقيان بمغبة ما لحق بالبلاد على العباد إلا بتدخل المذيعة التي أرجعت الرياح الربيعية والزعابيب التصحيحية والسيول التجريفية على نظام أسبق جثم على صدر البلاد 30 سنة وجماعات ولدت من رحم الإهمال لتدفع بالمصريين دفعاً إما إلى أحضان التطرف أو أطراف الترفع عن السياسة والساسة والسياسات. لكن سياسات نواب المستقبل - أو هكذا يأملون - تتحدث بغير ذلك وتشير إلى ما هو أسوأ من هذا. فمن لافتات تهانٍ بالأعياد وبداية السنة المدرسية الجديدة تحمل صورة المرشح الذي ظل مختفياً طيلة اختفاء البرلمان وملامح وجهه تنضح بعشق الناخب وحب البلد ووله خدمة المواطن، وذلك لله والوطن (وبالمرة كرسي البرلمان)، إلى أكياس لحوم الأضاحي مع ورقة تحمل رمز الانتخابي وعبوات الأدوات المدرسية مع غلاف يذكّر باسم المرشح، إلى لعب الأطفال البلاستيكية المصحوب توزيعها بتكرار اسم فلان الفلاني القادر على إحداث نقلة نوعية في حياة أبناء الدائرة، تحاول ريمة العودة إلى عادتها القديمة من شراء أصوات الناخبين وتسييل لعاب الفقراء وتربيط أعداد الداعمين تجهيزاً للبرلمان الجديد. لكن الجديد في البرلمان الجديد لا يكمن في الرشاوى الانتخابية أو الدقّ على أوتار المناطق العشوائية أو الاعتماد على استغلال فقر العائلات في الأحياء الشعبية، بل يكمن في استمرار أولئك في تلقي «الهدايا» مع رفض مبدأ فرض الوصاية. زينب التي نجحت في الفوز بثلاثة أكياس من لحوم الأضاحي من ثلاثة مرشحين مختلفين تنفي عن نفسها وصم الجهل أو سبّة الحمق. «هذه صدقات أستحقها لأنني فقيرة، ولم آخذها عنوة. كما أنني لم أكذب. فكلما ردّد أحدهم اسم فلان لأتذكره وقت الانتخابات قلت إن شاء الله. وكله بمشيئته». موسم الانتخابات المشتعلة رحاه حالياً لا لمنافسات دعائية أو صراعات برامجية أو تناحرات وعودية تحوّل بلغة المصريين إلى غزل بعضه عفيف وبعضه صريح. البسطاء والعامة الذين يغازلهم الحالمون بالبرلمان يشاهدون ويتابعون ويحلّلون بطريقتهم الخاصة، ويعرفون تمام المعرفة أن الغزل إلى زوال والتقارب إلى برلمان. زينب تعرف تماماً أن لحوم أضاحي المرشحين التي حصلت عليها ليست صدقات منزّهة عن الأطماع. كما أنها ليست هبات بعيدة من الأطماح. «على الأقل هم (المرشحون) واضحون في أهدافهم والصفقة معلنة ومتفق عليها من دون لف ودوران. لكن النكبة الكبيرة هي في الناس الكبار الذين ينصّبون أنفسهم حكماء ومثقفين ومنظرين، وتارة يقولون عنا صمام أمان الوطن وعصبه وحياته، وتارة أخرى يصفوننا بالجهلة والجائعين والحمقى. بل هم الحمقى». لكن الحماقة أعيت من يداويها. فالنظام الجديد في مصر ماضٍ قدماً في طريق الاستقرار وإعادة هيبة الدولة بطريقته الخاصة التي تعجب الغالبية الصامتة والقاعدة الضاربة الجموع الكادحة لا لشيء إلا لرغبة خالصة في العودة للحياة الآمنة وإن شابتها منغصات وعكرتها مشكلات. ومن ثم فإن جزرة الأمن والأمان، ومحاربة الإرهاب، وتطويق الجماعات تتفوّق على عصا التضييقات وقيد التشديدات. والحكومة الجديدة تستمتع بعذر الحداثة ومبرّر الاستجداد، لكنها في الوقت نفسه تطلق الوعود وتشنّ العهود. وعلى رغم علم شبه يقيني وتوقع شبه مؤكد بأن «زيداً كعبيد» وأن «أحمد هو الحاج أحمد»، إلا أن الغالبية قبلت بمبدأ غزل الوعود وتصبيرة العهود، شرط البقاء بعيداً من مجال الصلف وسجال الغطرسة. غطرسة ضيوف الفضائيات ونخب الأحزاب تذكّر كثيرين بعنجهية الجماعات وتكبّر الإخوان. قال سعد علوان (52 سنة) عقب مشاهدته فقرة حوارية غلبت عليها النبرة الصلفية: «أولئك الوجه الآخر للجماعات السلفية والإخوان وأشباههم. يعتقدون بأننا درجة أدنى أو في منزلة أضعف منهم، إن لم يكن لأنهم أعلى تعليماً وأكثر تأنقاً منا، فلأنهم أعمق تديناً وأقرب إلى الله منا. كلاهما لا يمتلك حتى حنكة المغازلة أو موهبة الملاطفة». ملاطفة المصريين ومغازلتهم على أشدهما هذه الأيام. وبين مرشحين حالمين بكرسي البرلمان ولو برشاوى زمان، وحكومة متمنية طول البقاء ولو بالإبقاء، ونظام يرسي الاستقرار ولو ببعض الإثقال يظل المصريون قادرين على التفريق بين الغزل العفيف منه والصريح، وبين الازدراء النخبوي منه والمتأسلم. يقول علوان: «المصيبة أن كليهما يدعي أنه يتحدث باسم المواطن ويطالب بحقه. لكن لا هؤلاء يلزمونا، ولا أولئك يهمونا». وعن المرشحين يقول: «هم يغازلوننا ونحن قبلنا الغزل. سأشارك في الانتخابات لأن قواعد اللعبة معروفة». يذكر أن 78 في المئة أي ثلاثة بين كل أربعة مصريين ينوون المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة. لكن الطريف أن 88 في المئة ممن ينوون المشاركة لا يعرفون شيئاً عن مرشحي الأحزاب وبرامجهم. (استطلاع رأي أجراه المركز المصري لبحوث الرأي العام «بصيرة»).