ابنة العم: هلت علينا كأميرة الأساطير في عباءة حمراء مطرزة، فعرفتُ أن وزنها زاد قليلاً، لكنها بدت أجمل من ذي قبل. خطواتها الواثقة على أرضية من خشب الجوز في شقة ذات أسقف عالية ضمخت الهواء برائحة الياسمين. سلمت بأطراف أصابعها، وتصرفت كهانم رغم قسوة الحياة وتقلباتها. لا تشبه نساءنا القابعات في البيوت، يقضين أوقاتهن في الطبخ والكنس، ويتسلين بضرب الأولاد والدعاء عليهم، ويحلمن بالذهب والأرض. اسمها جميل «فريزة» أي المنتقاة، على اسم زوجة جدي التي كرهها أبي وأخوته كراهة التحريم، وأحببتها أنا إكراماً لعينيّ حفيدتها. رأيتها للمرة الأولى قبل عشر سنوات، حين ذهبت لأسلم أمها إيجار الأرض بدلاً من أخي. يومها بدت كطالبة ثانوي رغم سنواتها الثلاثين، ببنطلون جينز وبلوزة بيضاء وشعر أسود ينسدل على كتفيها وعينيْ ملاك لم يختبر الألم. سلمتْ وقالت: إزيك يا أستاذ علي. من يومها لم أتخلف عن مشوار دفع الإيجار. مرات أراها وأخرى لا، لكن رائحة الياسمين، وأثرها الذي أتلمسه على الأثاث تسعد أيامي حتى الزيارة التالية. ظل «فكيه» محتضناً حقيبته تحت إبطه بحرص رغم جلوسنا منذ فترة، كأنه ما زال في الميكروباص، وقد فضَّل أن نتنطط خمس ساعات في جو لا يطاق بين ثلاث سيارات بالنفر ومترو مصر الجديدة البطيء على أن نستقل سيارة بمئة جنيه، لكن شغفي لرؤيتها هوّن من صعوبة الطريق. تناولتْ الرزم التي أخرجها «فكيه» بلا حماس، وأخطأت في العد كطفلة، وبدت نائية كأنها تحتمي من شرور العالم وراء أسوار عالية، فيما كان «فكيه» كغراب البين يطلق سخافاته، فيتعكر صفاء عينيها لحظة. أقاطعه، لتعود النظرة البريئة. وقَّعَتْ في ثبات وصمت حيث أشار «فكيه» ووقعتُ كشاهد بعد أن فشلتُ في تجميع المبلغ وسبقني فكيه كالعادة. تباطأتُ في نزول السلم حتى أحتفظ بملامحها أطول فترة ممكنة، لكنني مع خروجي من باب العمارة، أيقنت أنني أودع بيتاً برائحة الياسمين انتهى عهده. سرتُ باتجاه الشارع الرئيسي، يلفني حزن، لا ألتفت لثرثرة «فكيه» الذي ما زال متشبثاً بحقيبة سوداء فارغة إلا من عقد بيع. * فريزة: تجلس أمامهما بعظمة تليق بسلالة عائلتين إقطاعيتين انتهت إحداهما بالإفلاس والأخرى بالجنون، بينما كانت قبل ساعة فقط تحبس نفسها في الحمام لتبكي وتلطم خديها كما تفعل زوجاتهم الفلاحات. الآن تهز قدمها البيضاء ذات الكعوب الوردية التي تقضي الليل في دعكها حين يهاجمها الأرق وتعذبها الذكريات. وتكرر عد النقود بعقلها اللاهي فتخطئ، وحين تمل تقول بثقة «مظبوطين» بينما تجمع في عينيها نظرات الاستعلاء والاحتقار لتحصد مزيداً من الكراهية بدلاً من الشفقة، وليشعرا أن «فريزة» زوجة جدهما مازالت كما هي، حتى وهي تبيع آخر قطعة من ميراثها. تتباهي أمامهما بأثاث أمها القديم وأطقم الصيني والملاعق الفضية لتثبت أنها لم تستسلم تماماً، تتمسك بمجد غابر سمعت عنه من مصادر مشكوك فيها، بينما الشقة فقدتها، طردها منها صاحب المنزل، لأن محاميها المتواضع لم يصمد أمام ألاعيب محاميه الشهير، لتخرج من هذه الشقة تحمل أثاث أمها القديم قدم أفلام ليلى مراد وأنور وجدي، مع ثلاث صور معلقة في الصالون، صورة زفاف والديها، وصورة أمها بالتايير الأسود والكولييه الذهب، وتسريحة «البوجوديه»، وصورة الملك فاروق التي استلمها أبوها حين جاء ترتيبه الأول على دفعته، وترحل بها إلى شقة في مدينة جديدة لا يعرفها فيها أحد، حيث تقضي ساعات عمرها القادم في تلميع طقم الفضية التي اعتادت أمها أن تجمعهم حول منضدة السفرة، وتوصيهم: «لمعوه لما يبقى زي المراية»، تفرك «السبيداج» بقوة حتى تتحول البودرة البيضاء إلى رمادية، وتتحول الملعقة لمرآة تضاف إلى مراياها المتعددة: مرآة التسريحة، مرآة البوفيه وزجاج النوافذ حتى الأثاث اللامع تتابع صورتها فيه أثناء مرورها في الشقة. لكنها ستتجنب النظر فيها، بعد أن تراجع عدد مراياها حتى اقتصر على واحدة في غرفة نومها، تلقي عليها نظرة عابرة قبل الخروج. لم يبق لها إلا أم علاء العجوز التي تربت في سرايا جدها، كأثر من العز القديم، تحكي معها أكثر مما تخدمها، لكنها، على الأقل، رفيق ليالي السهاد الطويلة. لم تغلق الباب خلفهما قبل أن يغيبا في انحناءة السلم، كما يقتضي الإتيكيت، فقد كان أمامها متسع من الوقت للبكاء. * المشتري: للمرة الثالثة تخطيء في العد فتبدأ من جديد. شغلتُ نفسي باحتساء القهوة في فنجان غريب تلتف حوله حية، يقترب فم الحية من فمي مع كل رشفة. أكلت الجاتوه من طبق مشابه، بحية أصغر. في زياراتي النادرة لها تصر على نفس الطقوس، تقديم الشاي في أطقم غريبة مع الملاعق الفضية اللامعة، وكأنها تذكرني بجدتها الملعونة. لم يبد عليها أي تأثر وهي تعد الآلاف بأصابع بيضاء وناعمة يبدو عليها الترف، كأنها طفلة تلهو بقروش قليلة. لم تعرف الشقاء، ولم تفعل شيئاً في الحياة سوى بيع ميراثها قطعة وراء الأخرى، والزواج والطلاق مرتين لعدم الإنجاب. نادت: أم علاء. القهوة من فضلك. سألتنا العجوز عن نوع قهوتنا، بينما سرحت هي في عالمها الخاص. «ملعون أبو المنظرة»، قلت في نفسي بعد أن رأيتها تتمنظر علينا بالخدامة وكؤوس الكريستال وفناجين القهوة المذهبة، بينما علي الأهبل ينظر إليها بوله كأنها من كوكب آخر. مع أول رشفة من فنجان القهوة قلت: أصلك يا مدام متعرفيش في البيع و الشراء. تغير لونها، ونظرت نحوي باحتقار، فتدخل علي لينقذها: الدكتورة مالهاش في الحاجات دي. قلتُ كأنني أنصحها: «يعني علشان المرات الجاية». قاطعني بغضب: «ما خلاص. الأرض خلصت». خفضت عينيها لحظة في ما يشبه الانكسار، ثم رفعت رأسها في استعلاء زائف. وأبدى علي أسفه من جهلي بأصول الخطاب. سألتني أين توقع؟ مددتُ يدي بقلمي الصيني، فتجاهلت يدي الممدودة وأخرجت قلماً فخماً، ووقعت بهدوء. بينما تلكأ علي كعادته، مددت أنا الخُطى لألحق بالمترو الذي كاد أن يتحرك، لكنني لم أثر عليه، فلا شيء يهم غير الحقيبة التي بها آخر قطعة من أرض جدي.