يستضيف فندق «المَرْسَم» في مدينة الأقصر في الجنوب المصريّ، معرضاً للفنان أحمد الجنايني وهذا المعرض سينتقل إلى كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصر، على أن تصاحبه ورشةُ عمل لطلاب الكلية. أما حكاية فندق «المرسم»، فلا تخلو من شعرية تليقُ باللوحات التي تزيِّن جدران بهوه الواسع. كان الفندق بيتاً مصمماً على الطراز العربي القديم. له حوش داخلي، تتشعَّب من مركزه أروقةٌ تتراص على جانبيها غرفٌ تطلُّ على نيل الأقصر من جهة البرّ الغربيّ. مالكُ الدار هو الشيخ علي عبد الرسول، الذي لم يبرحه حُلمُ أن يتمَّ كشفٌ أثري فرعونيّ على يد مواطن مصري وعلى نفقته الخاصة. ظل يكافح بيروقراطية مصلحة الآثار المصرية، طيلة عمره الذي انقضى عام 1988، من أجل الحصول على تصريح بغية كشف سرداب مقبرة الملك سيتي، الذي اكتشفه أبوه محمد عبد الرسول مع الإيطالي باتيستا جوفياني بلزوني الذي كان جاء للبحث عن منابع النيل. ويعود الفضل إلى الشيخ عبد الرسول في اكتشاف كثير من الآثار الفرعونية في الأقصر، تلك المدينة التي وصفتها الموسوعاتُ ب «المتحف المفتوح» لكونها تضمُّ، وحدها، ثلثَ آثار العالم. كان ذلك الشيخ، في الثمانينات الماضية، يتجول مع الرئيس الأميركي جيمي كارتر ليرشده إلى أماكن الحفر التي تحتها الأثر. وبسبب هوس الشيخ عبد الرسول بالفنّ، ابتنى هذا البيت عام 1945 وخصصه لاستضافة الفنانين المصريين مثل فكري الجزار وحامد ندا وعز الدين نجيب وسواهم، ليقيموا ورشَ رسم، مستلهمين النيلَ ومقابرَ الفراعنة ووادي الملكات ومعبدَيْ مِرنبتاح ورامسيوم المجاوريْن للبيت، ذاك الذي ما لبث أن تحول إلى فندق يحمل الاسم ذاته (المرسم). قدّم الجنايني في معرضه ثماني وثلاثين لوحةً ما بين الأكواريل والأكريليك. الجديدُ في هذا المعرض هو مزاوجته بين الشعر والتشكيل، ليس من باب الترجمة التشكيلية للكلمات الشعرية، أو الترجمة الشعرية للتكوين التشكيلي، بل إن الحروف العربية التي تنسج القصيدة تمثّل جزءاً أصيلاً من التكوين البصريّ للتشكيل، بمعنى أن محوها يخلُّ بالاتزان التكويني للوحة. والجديد أيضاً أن هذا التكوين «الشعر - تشكيلي» ابنٌ بكليّته للفنان الجنايني، لأنه يكتب الشعرَ عطفاً على كونه تشكيلياً. يقول الجنايني إن للحرف العربي في لوحاته حضوراً بصريّاً حتميّاً، يسبب انتزاعه خللاً جوهرياً في البناء التشكيلي. وهنا بوسعنا أن نقول إن القصائدَ القصيرةَ السابحةَ حروفُها في نسيج الخطوط والألوان، تقفُ كهيكل تأسيسيّ للوحة، على المستويين المضموني والجمالي. فكلمات القصيدة تحملُ، في شكل أو آخر، مضمونَ التشكيل، كما أن تكوين الحروف العربية سيموطيقياً يقف بانحناءاته واستداراته واستقاماته بوصفه «البطل» في متن التشكيل اللونيّ. هذه التجربة تختلف مثلاً عن تجربة فنان الخط العربي التونسي نجا المهداوي الذي صنع مع الفنان التشكيلي الألماني هانكار تجربةً زاوجت بين التشكيل والحرف العربي، من دون أن يتكئ التشكيل مضمونياً على دلالة الحرف، بل اكتفى بالمجاورة الجمالية الشكلية بين رسم الحرف العربي ضمن خطوط التشكيل واللون. المقطوعاتُ الشعرية تنتمي الى قصائد الومضة «الفلاشية» القصيرة، وهي من ديوان «على جناح فراشة» لأحمد الجنايني ويصدر قريباً مرفقاً ببعض لوحات الفنان. على تلك اللوحات نقرأ: «ليس من حقي أن أثور/ حين تغلقين في المساء هاتفك/ لكنني/ سأكتشف طريقة أخرى لهيكلة الاتصال/ عبر نازك الملائكة/ وربما درويش/ وصوت فيروز المحاصَر/ في دمي». أو: «أنا والموت/ لصّان/ كان يسرقُ من القلبِ عُمراً ويهرُبْ/ وكنتُ بصمتٍ شفيفٍ/ أفتشُ عن لحظةٍ أشْتهيها». ثم نقرأ: «صُبِّى غضَبكِ على ساحلي/ وامنحيني موتاً جديداً». أو: «في المساء/ أغْمضي شفتيكِ القرمزيتين/ سيكونُ العالمُ ساكناً/ وربما/ لا أستطيع النعاسْ»... بهذه التجربة ودّ الجنايني أن يختبر كمَّ الطاقات الخبيئة داخل الحرف العربي مضمونياً وسيموطيقياً وجمالياً، حينما يقفُ الحرف كركن ركين من بناء اللوحة البصرية. والجنايني من مواليد الدقهلية، أقام العشرات من المعارض في مصر والعالم، وحاز العديد من الأوسمة والجوائز ودروع التكريم، وله تحت الطبع رواية بعنوان «عاريات مودلياني - سيرة لذاكرة اللون»، يتحدث فيها عن رحلته عبر الفن، بعدما هجر عمله كمهندس ميكانيكي ليلتحق بحلم اللون والفرشاة، فراح يطارد، في بداية حياته، آثار مودلياني الذي شغف بها، وسواه من الفنانين في إيطاليا وألمانيا.