تعدّ المدائح النبويّة فناً أدبياً مستقلاً بذاته، حتى صار أجلّ الأغراض الشعرية، فتسابق نحوه الشعراء في مختلف العصور، ونظموا فيه أروع ما جادتْ به قرائحهم. وقيل: مَنْ لمْ يُبدِع في المدائح النبوية فقد فاته شرف عظيم! ونظراً لكثرة المدائح ووفرتها، لا يمكن حصرها بحال من الأحوال، لتعدّد بيئاتها، وتنوّع لغاتها، واختلاف مذاهبها. وبين المدائح ما نال حظاً واسعاً من الشهرة، ونصيباً وافراً من القبول، ربما لاشتمالها على كثير من أحداث السيرة النبوية ووقائعها، أو لشهرة أصحابها ومكانتهم، أو لارتباطها بظروف ومواقف بعينها، أو لصدقها الفني والعاطفي، وجمالياتها البلاغية الفائقة، ما جعل الناس تتناقلها جيلاً بعد جيل، وترددها الألسنة صباحاً ومساء. وهناك عدد هائل من الشّعراء الذين عارضوا قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير، آخرهم الدكتور صابر عبد الدايم، والدكتور عبد الغفار هلال. والملاحظ أن الكثير من هذه المعارضات تتفق مع قصيدة كعب في الوزن والقافية، والبعض قد يختلف معها في الغرض، فالمعارضة إذن ليست كاملة، ولكنها جزئية. وفي هذا يقول الدكتور زكي مبارك في كتاب «المدائح النبوية»: «توارث المسلمون احترام قصيدة كعب حتى قال أبو جعفر الألبيري: حدثني بعض أشياخنا بالإسكندرية بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب، فلما سُئِلَ عن ذلك، قال: رأيتُ رسول الله فقلتُ يا رسول الله: قصيدة كعب أنشدها بين يديك؟ فقال نعم، وأنا أُحبها وأحبّ من أحبها. قال: فعاهدتُ اللهَ أنني لا أخلو من قراءتها كل يوم. قال أبو جعفر: ولم يزل الشعراء منذ ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها تبرّكاً بمن أُنشِدت بين يديه، ونُسِبَ مدحها إليه». ويؤكد الأديب محمد عبد الشافي القوصي في كتابه الجديد «نهج البردة للشاعر المسيحي ميخائيل ويردي» والصادر عن دار «الفضيلة» في القاهرة أن من بين المعارضات الشعرية لقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي «نهج البُردة» تلك التي جادتْ بها قريحة الشاعر المسيحي السوري ميخائيل خيرالله ويردي تحت عنوان «أنوار هادي الورىَ» وعدد أبياتها 124 بيتاً من بحر البسيط. ومن أسف، فإنّ هذه القصيدة، رغم جمالياتها الفائقة، وغرضها الجليل، إلا أنها لم تنلْ حظّها اللائق بها من الشهرة والذيوع بين دارسي المدائح النبوية وشداة الأدب. وبذلك يعدّ ويردي أول مسيحي ينظم قصيدةً في (نهج البُردة) على الإطلاق! وقد فتح الباب على مصراعيه أمام شعراء مسيحيين آخرين، ليحذوا حذوه، ويسلكوا مسلكه، ويسيروا على دربه وخطاه! وميخائيل ويردي هو الشاعر والموسيقي السوري ميخائيل بن خليل خيرالله ويردي الذي عاش في الفترة ما بين 1904 و1951 وقد ولِدَ في دمشق وتوفي فيها. درس مواد التعليم الثانوي على يدي والده، وبعد حصوله على شهادة الدراسة الثانوية بدأ حياته العملية محاسباً في المحلات التجارية، ثم درس الحقوق، وعُيِّن خبيراً لدى المحاكم. أتقن فن التصوير الشمسي، وكان مولعاً بتعلّم اللغات الأجنبية، لذلك كان يتقن التركية والفرنسية واليونانية والروسية، حتى صار من كبار مثقفي عصره. درس الموسيقى والعزف على العود، وشارك في تأسيس النادي الموسيقي السوري، والرابطة الموسيقية في دمشق، وعُيِّن مستشاراً موسيقياً في المعهد الموسيقي الشرقي التابع لوزارة التربية. وأسهم كتابه «فلسفة الموسيقى الشرقية» (1947) في إبراز عدد كبير من جوانب الموسيقى الشرقية، وقدّم فيه حلولاً موسيقية حول الإشكال في الموسيقى العربية الذي بحث في مؤتمر القاهرة الموسيقي الأول عام 1932 وحاز هذا المؤلف تقدير منظمة «يونيسكو». كما رُشِّحَ كتاب «فلسفة الموسيقى الشرقية» لجائزة نوبل سنة 1951 وقد كرّمت وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية ميخائيل ويردي بعد وفاته بتقليده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى تقديراً لخدماته في مجالات الأدب والموسيقى وما كتب حول أثرهما في السلام. كما ألّف في الموسيقى كُتباً أخرى، مثل كتابه: «الموسيقى في بناء السلام» الذي تُرجِمَ إلى الإنكليزية والفرنسية، و «جولة في علوم الموسيقى العربية»، و «لا شيء من الموسيقى العربية». وألّف عدداً آخر من الكتب في مجالات مختلفة، مثل كتابه: «العروبة والسلام» (1951) وقد تُرجِم إلى الإنكليزية، و «الأدب في بناء السلام». وفوق ذلك كله ديوانه الشعري (زهر الرُّبى) الذي يحتوي على (450) قصيدة، و(3905) بيتاً، والذي طبعه بعد أن زار مسجد محمد علي في القاهرة 1946 وأعجب هناك بالفنون الإسلامية. ثقافة الشّاعر للوهلة الأولى يستطيع قارئ شعر ميخائيل ويردي أن يمسك بمفاتيح شخصيته، وثقافته المتنوعة، وأغراضه المتعددة، ونفسيته المتسامحة، وخياله الواسع، وبيانه العذب المرصّع بالحِكَم والأمثال، ولِمَ لا ؟ فهو الأديب، العليم باللغات، وعالِم الموسيقى، وعاشِق التصوير، كما يقول القوصي. وبنظرة سريعة إلى قصيدة «نهج البُردة» لميخائيل ويردي نجد الشّاعر التزم نهج المعارضات في المدائح النبوية الشهيرة، ففعل مثلما فعل أسلافه من شعراء المدائح كالبوصيري، والبارودي وشوقي، فغنّى على قيثارتهم، ونسج على منوالهم. فنراه يذكر موضع (جيران بذي سلَم) وما له من دلالة رمزية تاريخية، فاستهلّها بقوله: «أنوارُ هادي الورى في كعبةِ الحرمِ/ فاضتْ على ذِكرِ جيرانٍ بذي سَلَم».ٍ ثمّ ذمّ الدنيا وزخارفها وفتنتها، وعاتب النفس على تقصيرها ولام نوحها إلى الهوى، ثم دعاها للعودة إلى رشادها وهدايتها: «يا ليتَ أحلامَ عمري لم تضع بددا/ بحُبِ قصرٍ من الأوهام منهدِم/ فاربأْ بنفسكَ أن تنهار من ألمٍ/ واربأْ بحُسْنِكَ أن يربدّ من سأَمِ». وعرض الشّاعر ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من معاداة قومه له، عندما دعاهم إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، فتحمّل الصبر طويلاً في سبيل تبليغ رسالة ربه، حتى أتمّ الدين وأكمل شرائعه على أحسن صورة: «وحَّدْتَ ربّكَ لمْ تُشرِك بهِ أحداً / ولستَ تسجدُ بالإغراءِ للصنم/عاديتَ أهلكَ في تحطيمِ بدعتهم / من ينصر اللهَ بالأصنام يصطدِم»ِ. كذلك نراه يُلِحّ على الإشادة بإنسانيات الرسول، وعاطفته نحو البشر وسائر الكائنات، كما أفاض الشعراء السابقون من الوقوف عند هذا الجانب الإنساني العظيم، فيخاطبه، قائلاً: ترعى اليتيمَ وترعى كلَّ أرملةٍ / رعيَ الأبِ المُشْفِقِ الباكي من اليَتَمِ. كما مدح - الشّاعر - خُلُق (الرحمة) الذي هو من أوضح أخلاق النبوة، فقال: كأنّما قلبهُ ينبوعُ مرحمةٍ/ مستبشِرٌ جذلانُ بالنَسَمِ. وقوله أيضاً: وَكُنتَ أَرأفَ بالمسكينِ مِن دُوَلٍ/ رَأت بِأَمثالِهِ سِرْبَاً مِن الغَنَمِ. وقوله كذلك: في دينكَ السمحِ لا جنسٌ ولا وطنٌ/ فكل فردٍ أخٌ يشدو على عَلَم. وأبدى الشاعر إعجابه الشديد بمنهج الرسول الدعوي القائم على الموعظة الرقيقة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فقال: أحببتُ دينكَ لما قلتَ أكرمكم/ أتقاكمُ وتركتَ الحُكمَ للحَكَمِ/ وقلتَ إني هُدىً للعالمين ولمْ/ تلجأ إلى العُنفِ بل أقنعتَ بالكلِمِ. وقد فطِن الشّاعر إلى سر نجاح الدعوة المُحمّدية، بأن هذا السر يكمن في أن سيّد الدعاة وأعظمهم (مُحمّد) خاطب الناس على قدر عقولهم، فأحبوه، واتبعوه: خاطَبتَ كُلَّ ذكيٍّ حَسبَ قُدرَتِهِ/ وَلَم تَكُن بِغبيٍّ القَومِ بالبَرِمِ. ولم ينسَ الشّاعر ما أسداه رسول الله للمرأة من احتفاء وتكريم، لم تشهد له الدنيا مثيلاً، وسبق به حضارات الشرق والغرب، الزاعمين بأنهم أول من نادوا بكرامة المرأة وحقوقها: عَزَّزتَ كُلَّ فَتاةٍ حِينَ صِحتَ بِنا/ما أَولَد العِزُّ غَيرَ السّادَةِ الحُشُمِ/ فَأَنتَ أَوَّلُ مَن نادى بِمأثَرَةٍ/ يَظُنُّها الغَربُ من آلاءِ بَعضِهمِ. ونجد الشّاعر يطلب «الشفاعة» من الرسول في الآخرة، كما طلبها الآخرون من قبل: فاجعلْ هواكَ رسولَ الله تلقَ بهِ/ يوم الحسابِ شفيعاً فائقَ الكَرَمِ. ومثلما ختم المادحون قصائدهم بالصلوات المباركات على خاتم الأنبياء، اختتم - أيضاً - (ميخائيل ويردي) قصيدته بالصلوات والتسليمات على النبيّ الكريم، فقال: صلّى الإلهُ على ذِكْراكَ مُمتدِحاً/ حتى تؤمّ صلاةَ البعثِ بالأُمَمِ. ويقول محمد القوصي: على جانب آخر، انفردت قصيدة «ميخائيل ويردي» بقسمات واضحة للعيان، لا تحتاج إلى عناء كثير، أوْ إعمال فكر، نظراً للبساطة والوضوح الشديد، الذي اتسمت به مضامين القصيدة .. فامتازت بميزات فريدة عن مثيلاتها في هذا الغرض، منها: اختلاف الاستهلال، فلم يلجأ الشّاعر إلى الغزل كما فعل غيره، إنما دخل في جوهر الغرض مباشرة، فقال: أنوارُ هادي الورى في كعبةِ الحرمِ/ فاضتْ على ذِكرِ جيرانٍ بذي سَلَمٍ.