إذا كانت السوسيولوجيا هي العلم الذي يبحث في الأبعاد الإجتماعية للحياة الإنسانية، فإن دراسة الثقافة ضمن حدود السوسيولوجيا تعني البحث في العوامل الإجتماعية والثقافية معاً. تشمل الثقافة من وجهة نظر سوسيولوجيا الأفكار والمعتقدات والقيم، وتضم مجموعة متنوعة من القضايا تتعلق بردود أفعال الأفراد حول حدث ما، إلى وجهات النظر الأخلاقية المجسدة في ديانة معينة، أو في رواية أدبية ما. ومن هذا المنطلق نجد الثقافة في كل مكان حولنا، نجدها في الكتب والمجلات والصحف، ونجدها في الأفلام والبرامج التلفيزيونية، ومواقع الأنترنت. يحاول الباحثان الإنكليزيان ديفيد إنغليز وجون هيوسون في كتابهما المعنون «مدخل الى سوسيولوجيا الثقافة» الذي ترجمته لما نصير، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، أن يدرسا علاقة الثقافة بالمجتمع، ويختاران لذلك المجتمعات الأوروبية، إضافة إلى المجتمع الأميركي لتبيان العلاقة الجدلية بين الثقافة والمجتمع، وإظهار أن لكل ثقافة ما يميّزها عن الثقافات الأخرى. فالثقافة الفرنسية تختلف عن الثقافة الإيطالية، وثقافة الطبقة العاملة تختلف عن ثقافة الطبقة البورجوازية. يرى الباحثان في معالجتهما للثقافة الأميركية أن النقاد الفنيين والأدبيين ينظرون الى هذه الثقافة بوصفها ثقافة جماهيرية، لكونها صادرة عن مجموعة من الشركات الضخمة التي تنتج الأفلام، وبرامج الراديو، والصحف، والمجلات لتستهلكها غالبية الشعب، وبذلك أخرجت الأشكال الثقافية «العليا» كالأدب والفلسفة وعلم النفس والفلكلور من مجال إنتاجها، الأمر الذي ترك أثاره السلبية على المجتمع. وبالمقابل تبنّى السوسيولجيون وجهة نظر متفائلة إزاء واقع الحياة الأميركية، فقد رأوا في التعدّدية الكبيرة في الحياة الإجتماعية في الولاياتالمتحدة الأميركية السبب الأساس في تميّز الثقافة الأميركية بالتنوع والمرونة والانفتاح، لا بالجماهيرية. إن موقف النقاد والفنيين والأدبيين والسوسيولجيين من الثقافة الأميركية يستوحي على وجه الإجمال، كتاب «الديمقراطية في أميركا» للمفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل الذي دوّن فيه ملاحظاته إثر زيارته لأميركا في ثلاثينات القرن التاسع عشر. من بين هذه الملاحظات أن سكان أميركا مدينون لأسلافهم الأوروبيين بوجود بعض العادات الثقافية، إلا أنهم أضافوا الى هذه العادات الثقافية نتاج خبرتهم الحياتية، فكان لهم دستور ديموقراطي احتفظ بقدسية حقوق الفرد ضدّ تدخّل الآخرين، وجعل من حرية التعبير، وحرية المعتقد ركائز أساسية للحياة الأميركية، بخلاف أوروبا حيث كان حكم الملوك على رعاياهم لا يزال مهيمناً. كان كل رجل في أميركا حراً يفعل ما يحبّ، وكان مبدأ الحرية جزءاً حياتياً في الحياة الثقافية الأميركية. فضلاً عن ذلك كان جميع الرجال متساويين في نظر القانون. والمساواة هنا تعادل بأهميتها مبدأ الحرية. ومن ملاحظات توكفيل حول الحياة الثقافية الأميركية، أن المجتمع الأميركي حفّز الإدراك الثقافي لدى الأفراد من مختلف الطبقات مقارنة بالمجتمعات غير الديموقراطية، لكنه في الوقت نفسه، ونظراً الى إيمانه بالطهرانية وجه الأميركيين لاعتبار كسب الرزق أهم من التفكير في الأمور الروحانية، ما أدّى الى تحوّل اهتمام الأميركيين عن متابعة العلم والأدب والفنون بخلاف الأوروبيين. ونتج من هذا، أن الثقافة الأميركية في ما يتعلق بالثقافة العليا (الآداب والفلسفة وعلم النفس) بدت عادية جداً بحيث أضعفتها النزعة المادية التي طغت على غالبية أفراد المجتمع، وبدت الأنشطة الفنية في نظر توكفيل متواضعة جداً مقارنة بما قدمته الدول الأوروبية. ظلت أفكار توكفيل وغيره من المفكرين المنتقدين للحياة الثقافية الأميركية سائدة حتى فترة الستينات من القرن الماضي، وكان كثيرون من الكتاب والمفكرين، ونظراً الى تحدّرهم من أصول وخلفيات متعلّمة، شعروا بعدم الارتياح تجاه المجتمع الجماهيري الذي يعيشون فيه، وبالتحديد شعروا بالاستياء من الثقافة الجماهيرية، وبدت لهم أفلام هوليود، والروايات الهابطة، والمجلات، والصحف الشعبية كلها تجسد قيماً تافهة مبتذلة، وتتسم بالسطحية والسذاجة. لاحظ كثيرون من المفكرين والأدباء الأميركيين هذا الإنحدار للثقافة باتجاه الجماهيرية، ومن بينهم الكاتب دوايت مكدونالد الذي تبنّى أفكار الفيلسوف الألماني أدورنو وكتب مقالة شهيرة نشرت عام 1953 تحت عنوان «نظرية في الثقافة الجماهيرية» وفيها يتفق ماكدونالد مع أدورنوعلى أن الثقافة الجماهيرية المعاصرة في أميركا، ابتدعتها أنماط الحياة الأميركية واعتبرتها نوعاً من الصناعة ككل الصناعات، حيث لا يملك الموظفون فيها أدنى حرية، بل عليهم اتباع قوالب نمطية محدّدة تهدف الى إنتاج موحّد، والعلامة الفارقة في هذه المنتجات أنها مادة مخصصة مباشرة لاستهلاك الجماهير فقط. ويرى مكدونالد أن الثقافة الجماهيرية ثقافة متجانسة إذ تخلط وتمزج كل الأشياء معاً، وتكسر الحواجز القديمة للطبقة، والتقاليد والذوق، وتذيب الفوارق الثقافية كلها، ونتيجة لذلك فإن الثقافة «العليا» ستفنى لا محالة «فعندما تنافس أفكار جادة صيغاً تجارية يكون التفوّق للأخيرة، لأن الثقافة الجماهيرية لا تحتاج الى جهد حقيقي لفهمها. يرى ناقد آخر للحياة الثقافية الأميركية وهو دانيال بل أن ستينات القرن العشرين شهدت تطوراً استثنائياً في ثقافة الإستهلاك الجماهيري التي تشمل السلع المغلّفة بصور براقة ومثيرة، وتشجّع نمط حياة اجتماعي يتسم بالشهوانية، وانعدام المسؤولية بين أفراد الطبقات الوسطى في المجتمع الأميركي والتي أصبحت مفتونة بنفسها، ومنغمسة في اللذات أكثر فأكثر، وباتت مستغرقة في الأنشطة التافهة والموضة، وفي تناول الأطعمة، وأخذ دروس في الباليه، أو الرقص الشرقي. يلاحظ صاحبا الكتاب في بحثهما عن الحياة الثقافية في أميركا، أن الثقافة الجماهيرية في أميركا اليوم لم تعد محطّ خلاف بين اليمين واليسار، إذ أصبح هذا الموضوع مقبولاً في الحياة الأميركية. ومع أنه تراجع الى الوراء في المناظرات الفكرية، إلا أنه يطفو في بعض المناسبات على شكل خلافات حول مسائل معينة، مثل تأثير التلفاز والسينما على العنف عند الشباب. ويلاحظان أيضاً أن تحليل الحياة الثقافية في أميركا، يبيّن وجود أشكال ثقافية متنوّعة، تشمل ثقافة وطنية تعتمد على الإيمان بالديموقراطية، وثقافات محلية تدور في فلك شبكة من الأصدقاء والعائلة والجيران، وقيم ثقافية فرعية تعتمد على رفض مثاليات الطبقة الوسطى، ومجموعة أذواق على خلفية إتنية أو طبقية تعدّ أساس الإختلافات في ثقافة تبدو فعلياً ثقافة جماهيرية. يتسم كتاب إنغليز وهيوسون بقدر عال من الأكاديمية سواء في طرحهما لموضوع العلاقة بين السوسيولوجيا والثقافة، أو في معالجتهما لاختلاف هذه العلاقة من مجتمع الى مجتمع آخر، أو في تظهيرهما للقاعدة المعروفة التي تنصّ أن تنوّع المجتمعات يؤدّي الى تنوّع الثقافات. ويبيّن الكتاب، ان الدراسة السوسيولوجية للثقافة أمر في غاية الأهمية لفهم الجماعات والمجتمعات، وما تبديه من صراعات ثقافية يستحيل فهمها ما لم نفهم جذورها السوسيولوجية.