«في سياق التطور المقبل للديموقراطية، من المؤكد ان الأميركيين والروس، ستكون أمامهم مهمة شديدة الأهمية يقومون بها بالنسبة الى تاريخ الحضارة، شرط ان يعرفوا كيف يستجيبون بكل وضوح الأسباب المثالية التي ستجعل لهم هذه المكانة تجاه شعوبهم وتجاه البشرية جمعاء». هذا الكلام يختتم به الكاتب الفرنسي الكسي دي توكفيل فصول كتابه الشهير «عن الديموقراطية في أميركا». واللافت ان هذا الكتاب وضع في العام 1835، يوم كانت أميركا (أي ما كانت تشكله الولاياتالمتحدة الأميركية في ذلك الحين) أمة ناشئة شبه مجهولة في العالم أجمع، ولا تزال تبحث عن هويتها ومكانتها، ويوم كانت روسيا لا تزال امبراطورية طغيان لا تعد بشيء اللهم إلا بانهيارها. في ذلك الوقت المبكر، رأى دي توكفيل بعينه البصيرة وبتحليله الواعي الاستباقي، ما لن يراه المفكرون الآخرون إلا خلال الربع الأول من القرن العشرين. مهما يكن من أمر، فإن همّ دي توكفيل في ذلك الكتاب لم يكن المقارنة بين النظامين ولا التنبؤ بالكيفية التي ستكون عليها أحوال العالم بعد قرن من زمانه. كان همه الوحيد ان «يكتشف أميركا» على طريقته، وأن يكتشف ذلك النظام الجديد القائم فيها، وعنصر المساواة الذي يشكل محور سياساتها وحياة مواطنيها. وفي طريقه كان لا بد من أن يقيم مقارنات مع ما هو حادث في «العالم القديم»، أي في القارة الأوروبية، مبشراً بوصول الديموقراطية الأميركية الى العالم، باعتبارها تحمل «أول نظام مساواة وتكافؤ للفرص» في تاريخ البشرية. وهو لكي يتوصل الى هذا، قام برحلة طويلة زار خلالها «العالم الجديد» وكان يرافقه في الرحلة صديقه غوستاف دي بومون، الذي سيكتب معه مؤلف «نظام السجون»، الذي سيكون رائداً في مجاله أيضاً، مثل كل ما كتب دي توكفيل طوال حياته. في رسالة بعث بها العام 1835، أي يوم بدأ بإصدار كتابه «عن الديموقراطية في أميركا»، كتب دي توكفيل الى صديقه الكونت مولي، رسالة جاء فيها: «في أميركا، كل القوانين تنبع، في شكل ما، من الفكر نفسه. وكل المجتمع، إذا جاز لنا القول، يتأسس على واقع واحد... كل شيء يصدر عن مبدأ وحيد. وقد يكون في امكاننا ان نقارن أميركا بغابة كبيرة تخترقها دروب كثيرة مستقيمة توصل كلها الى المكان نفسه. من هنا قد يكون على المرء أن يصل الى نقطة اللقاء تلك ليجد أن في امكانه ان يكتشف كل شيء بنظرة واحدة». وعلى هذا النحو حدد دي توكفيل زاوية نظره، وقال بكل وضوح انه انما اكتشف نقطة اللقاء تلك، وبات قادراً على رسم صورة للعالم الجديد، يقدمها نموذجاً يحتذى الى العالم القديم. أما المبدأ الوحيد الذي تحدث عنه، والذي كرس له مئات صفحات كتابه هذا، فهو مبدأ المساواة، أو تكافؤ الفرص. وهذا ما جعل فرانسوا فوريه، المؤرخ الفرنسي يقول يوماً عن دي توكفيل، في معرض حديثه عن كتابه هذا: «ان دي توكفيل لم يذهب الى الولاياتالمتحدة بحثاً عن نموذج، ولكن عن مبدأ يدرسه، وعن قضية يرسمها ويحل إشكالاتها... كان ما يشغل باله السؤال الآتي: ضمن أية شروط تصبح الديموقراطية، إذا كانت حال مجتمع، ما يتعين عليها ان تكونه، أي حال حكم وسلطة، من دون أن تؤدي الى الديكتاتورية؟». وفي رأي فوريه أن أميركا تبدّت لدي توكفيل، إذ زارها وتجوّل فيها، ديموقراطية خالصة، بصفتها مجتمعاً وثقافة. تبدّت له ذات حكم متحدر من تلك الديموقراطية الخالصة. تبدّت له شيئاً مناقضاً تماماً لأوروبا في الحالتين، مجتمعاً من دون إرث ارستقراطي، من دون تراث أي حكم مطلق. ومن دون أهواء ثورية. تبدّت له أمة ذات تقاليد حريات محلية جماعية. وهذا ما جعل أميركا، في نظر توكفيل - وبحسب ما يفسر فوريه - مادة تفكير مهمة برسم العقل الأوروبي. إذاً، وتماماً كما سيفعل المفكر المصري رفاعة رافع الطهطاوي، في الزمن نفسه تقريباً، حين زار فرنسا ليتحدث عنها وعن نظمها برسم المصريين والمسلمين، ها هو ألكسي دي توكفيل يعود من رحلته الأميركية بهذا الكتاب، الذي كان أول اطلالة فكرية أوروبية وواعية على ذلك العالم الجديد. والحال انه لن يكون من المغالاة القول ان كتاب «عن الديموقراطية في أميركا» يتجاوز، ومن بعيد، الظروف الآنية التي تولّد عنها، ليصل الى مكانة «البناء السياسي بالنسبة الى الفكر في القرن التاسع عشر» كما قال بعض كتاب سيرة دي توكفيل. قسم دي توكفيل كتابه قسمين، حلل في أولهما العالم السياسي للاتحاد الأميركي، ورسم في الثاني حدود رأيه في - وتحليله ل - التشريع والحياة العامة في الولاياتالمتحدة، راسماً هنا تلك المقارنات المهمة مع الوضع في أوروبا القديمة، ولا سيما في فرنسا. وهنا، عبر هذه التحليلات، حدد دي توكفيل المساواة بصفتها العنصر الرئيس للحياة في أميركا، وقاعدة الدستور فيه، وبصفتها ايضاً نمط حياة اجتماعية ودينية. المساواة هي هنا الكلمة - المفتاح. وبالنسبة الى دي توكفيل، ثمة أمور قد لا تكون واضحة كل الوضوح كانت هي التي لعبت الدور الأساس في بناء هذه الأمة وتطورها، ومنها تلك المستوطنات المتقشفة التي أقامها المشردون والمنفيون وذوو الإيمان الديني الهرطوقي والبيوريتاني أحياناً، والنضال الجمالي ضد كل أنواع المغامرين والأفّاقين، ومعاهدات السلام التي وقّعت من أجل الخير العام، ناهيك عن التمرد، العام والفردي، ضد أنماط حكم جائر... ان هذا كله قد لعب، في نظر دي توكفيل، دوراً أساسياً. وهذا ما جعل الحرية الفردية، على رغم أخطاء من هنا وهنّات من هناك، الحرية الفردية القائمة في الحيز السياسي كما في الحيز الاقتصادي، تشير الى امكانات التقدم والنمو، حتى وإن كان ثمة - في شكل عام - نوع من ترجيح كفة الغني والناجح، على حساب الفقير والفاشل. وهنا في هذا الاطار، لا يفوت دي توكفيل ان يقول ان الصورة لا تخلو من مصدر للقلق: وهذا المصدر يتأتى من خطر المركزية المتزايدة التي قد يكون من شأنها إن تفاقمت ان تستعبد البلد كله لحساب أكثرية ما. أما نقاط الضعف الأساسية هنا، فتكمن في ترجيح كفة التصنيع دائماً على حساب الزراعة، وعدم وجود تماسك صلب في العائلة، علماً أن دي توكفيل كان يرى ان عنصري الحياة الريفية الزراعية والتماسك العائلي هما الوحيدان القادران على اعطاء هذا المجتمع صلابة التقاليد التاريخية. وفي غياب هذه، لن يكون من المستحيل تحوّل الديموقراطية الى طغيان. كان من الطبيعي لهذا الكتاب أن يحدث ثورة في الفكر السياسي الأوروبي، ويفتح الأعين حقاً على ذلك العالم الجديد الذي يصفه، وينبه من خلاله الى مركزية قضية المساواة في حياة الشعوب. وكان من الطبيعي لهذا أن يجعل من دي توكفيل واحداً من أبرز المفكرين السياسيين في زمنه. وألكسي دي توكفيل، المتحدر من أسرة نبيلة، ذات جذور وثراء في منطقة النورماندي، غرب فرنسا، ولد في العام 1805 وأمضى جلّ طفولته في باريس، لكنه تلقى دراسته الثانوية في مدينة ميتز، حيث كان أبوه محافظاً للمقاطعة. في العام 1826 نال إجازة الحقوق في العاصمة، وزار ايطاليا، ثم عيّن قاضياً في فرساي، وتابع دراسته الحضارة الأوروبية. وبين 1831 و1832 زار الولاياتالمتحدة الأميركية وعاد بعد ذلك لينشر كتاباً عن نظام السجون فيها، ثم نشر كتابه «عن الديموقراطية في أميركا». وتتابعت كتبه ورحلاته، وكان من بينها رحلات كثيرة الى الجزائر، كما زار ألمانيا وبريطانيا، ومات في كان عام 1859. ومن أبرز كتبه عدا ما ذكرنا: «المذكرات»، و «النظام القديم والثورة». [email protected]