فرحة عارمة عمت أرجاء البلاد وضربت بيوت العباد يوم كشف قضايا الفساد. لكن بعد فرحة المجاهرة وسكرة المحاسبة جاءت صدمة المكاشفة. فقد أيقن المصريون أن «الناس اللي فوق» مازالوا فوق جداً، وأن «الناس اللي تحت» مازالوا تحت جداً، وأن كل ما يقال عن ثورة غيرت النفوس وعدلت المسار وأيقظت الضمائر وعززت الأخلاق ما هو إلا «كلام فارغ». فرغ الكلام بعد مداخلة هاتفية عاصفة، تبعتها أخرى أكثر عصفاً في إطار استعراض برنامج مسائي للأحداث المصرية الملتهبة بإعادة تنقيب في واقعة وساطة بطلتها مذيعة في التلفزيون الرسمي سلطت غضبها وحنقها ولسانها على رئيس الجامعة الذي رفض طلبها الموصى عليه من وزير التعليم العالي بنقل «إنساني» وإن كان «غير قانوني» لشقيقتها من كفر الشيخ إلى القاهرة. وبينما الطرفان يتراشقان بالألفاظ ويتنابزان تارة بالمكانة الاجتماعية وتارة بالمرتبة الأخلاقية، تدخل المذيع ليهدئ النفوس ويرطب الأجواء. سرد المذيع بحسن نية بالغ وشفافية قلب ناضر كيف أنه شخصياً لجأ إلى رئيس الجامعة طلباً لخدمة لقريب له، فأحاله الرجل على الدكتور فلان الذي أسدى له طلبه مؤكداً أنه كان ليفعل الشيء نفسه مع أي مواطن. لكن أي مواطن لا يجرؤ على أن يحلم بأن يخاطب عامل بوفيه مكتب رئيس الجامعة ناهيك عن الرئيس نفسه. الغريب أن المصريين المتابعين لوقائع «المذيعة ورئيس الجامعة» حيث الوساطة المرفوضة والفضيحة المنشورة اعتبروا التفاصيل «مشكلة الناس الكبار» الذين لا شأن لهم بهم. ورغم ذلك، غرق بعضهم في التفاصيل التي اعتبروها دالة كاشفة. فالمذيعة رغبة منها في إبهار رئيس الجامعة وإجباره على تنفيذ المطلوب عرفت نفسها بأنها مذيعة «الرئاسة» وأستاذة «الإعلام العسكري»، ورئيس الجامعة تلميعاً لمكانته وتجميلاً لسمعته استشهد بكلام المذيع على أن الخدمة المطلوبة لم ينفذها بنفسه، بل أحالها على أستاذ جامعي. «الخدمة» المعروفة اجتماعياً ب «الوساطة» وبروتوكولياً ب «المجاملة» والمنعوتة شعبياً ب «الكوسة» والمعنونة دولياً ب «المحسوبية» والمندرجة في المعاجم الغربية ضمن أدوات الفساد وغير الواردة أصلاً في المعاجم العربية (رغم أنها ابتكار عربي مئة في المئة) فتحت حواراً مجتمعياً على المقاهي وأججت حراكاً نقاشياً على الأثير العنكبوتي حول ما إذا كانت «الخدمة» فساداً مع إمكانية تصنيف الخدمات وقابلية تفنيد المجاملات وحتمية فرز «الكوسة» وفق اللون والنوع والحجم. التاجر الخمسيني الذي يلقبه أصدقاؤه ب «الحاج» نظراً لتدينه المفرط وصدقاته الدورية العلنية وقدراته على التحليل والتحريم الفطرية ما أكسبه كذلك لقب «شيخ» ممن يستفتونه قال بعد ما بصق على الأرض ونظر نظرة سديدة إلى امرأة تعبر الطريق ثم تنهد تنهيدة عميقة: «حكاية الحج الرشوة هذه (في إشارة إلى رشوة طلبها متهمون في قضية فساد وزارة الزراعة) ليست منطقية. هي بكل تأكيد تسهيل لأداء الفريضة، أو تبسيط للقيام بها، أو تخفيض لتيسير كلفتها. ثم أن الهدية عنوان المحبة. تهادوا تحابوا». إلا أن محاباة الكبار من دون الصغار تزعج البسطاء والفقراء. فمن «خدمة» نقل طالبة جامعية شقيقة «مذيعة الرئاسة» إلى «مجاملة» حج ل 16 فرداً من أسر مسؤولي وزارة الزراعة إلى «بدل القضاة» المثير للجدل والحسد إلى استثناء «أبناء الكبار» في قرارات النقل من الجامعات، همس عامل الأمن في أذن صديقه أنه لو كانت المحاباة للجميع لارتاح الجميع. فهمس صديقه ضاحكاً: «هذا ما يسمونه عدالة اجتماعية». فضحك كلاهما رغم أن حكاية العدالة الاجتماعية هذه ظلت عصية على فهم الأول. أول ما طرأ على بال مجموعة من الأصدقاء من شباب الثورة سابقاً رواد المقاهي حالياً في ضوء حراك حديث الكوسة والمحاباة والمحسوبية كان حملة عنكبوتية أنشأوها في أعقاب الثورة عنوانها «واسطة ومحسوبية ورشوة. ابدأ بنفسك». أبرز ما ورد في حديث الذكريات كان اقتراح أحدهم إعادة تدشين الحملة في ضوء أربع سنوات كاشفة لكن بعد إضافة جملة «ابدأ أنت الأول». وإلى حين أن يقرر المصريون - رئيساً وحكومة وشعباً - أيهم يبدأ أولاً أم أن البداية ستكون جماعية، يمضي آخرون قدماً على طريق الصيد في الماء العكر. فلمناسبة الذكرى السنوية الأولى لتأسيس إحدى الحملات «الإخوانية» المعروفة باسم «ضنك»، دشن مستخدمو إنترنت من أبناء الجماعة ومتعاطفيها هاشتاق #شوفتوا-مصر، وذلك بغية الهبد والرزع أو التشكيك والتنديد أو التبكيت والتحقير أو كلها مجتمعة من الأوضاع في مصر. وتعامل أبناء الجماعة مع قضية الفساد الكبرى باعتبارها «دليلاً دامغاً» على فساد الرئيس وتدهور الأوضاع وتقهقر الأحوال، رغم أن كشفها أسعد المصريين كثيراً وأعاد ضخ قدر من الأمل بإمكان مواجهة الفساد. وتظل أحوال وأشكال وأنماط وأنواع «الكوسة» من المجاملات والخدمات والمحسوبيات قيد قرار المصريين فإما اعتبارها أسلوب حياة أو أداة فساد. وفي حال اختاروا الأخيرة، تبقى منظومة من منظومات المجتمع إلى أن يحسموا أمرهم حول من يبدأ أولاً: نفسك؟ أم ابدأ أنت الأول؟ أم تظل الرغبة الشعبية والإرادة الرسمية لمواجهة الكوسة «كلاماً فارغاً»؟