وزير الخارجية: مساعدات المملكة تتجاوز 133 مليار دولار لأكثر من 172 دولة    "الشؤون الإسلامية" تنهي فرش 12 جامعا بمنطقة القصيم    محرز يغيب عن الأهلي    الرياض: ضبط 4 وافدين لممارستهم أفعالاً تنافي الآداب العامة في أحد مراكز «المساج»    أمانة تبوك توفر 260 بسطة رمضانية في 13 موقعًا    الاتحاد الأوروبي يُعلن تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا    محافظة طريف تسجل أدنى درجة حرارة بالسعودية    محكمة الاستئناف بعسير تحتفل بيوم التأسيس    المياه الوطنية تُنفّذ 4 مشروعات في الطائف بكُلفة تجاوزت 323 مليون ريال    لافروف: الحوار مع أمريكا في الرياض «إيجابي»    تعاون صحي سعودي - إندونيسي لتعزيز خدمات الحج والعمرة    وزارة الصحة تؤكد أهمية التطعيم ضد الحمى الشوكية قبل أداء العمرة    الكويت في يومها الوطني ال 64.. نهضة شاملة تؤطرها "رؤية 2035"    هيئة الصحفيين بمكة تنظم ورشة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني في الإعلام بالتعاون مع كدانة    فعاليات متنوعة احتفالًا بذكرى يوم التأسيس في الخرج    اليابان تسجل عجزًا رقميًا قياسيًا    طقس بارد مع فرص لصقيع ورياح في عدة مناطق    زيادة تناول الكالسيوم تقلل من خطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم    أمانة الرياض تباشر تركيب لوحات أسماء الأئمة والملوك في 15 ميداناً    بحث التعاون البرلماني بين الشورى السعودي والنواب الإيطالي    سلال غذائية سعودية للنازحين بالسودان.. وعمليات قلب للمرضى في أوزبكستان    بنزيما ورونالدو يتنافسان على صدارة «هداف روشن»    "السعودية لإعادة التمويل" تدرج صكوكاً دولية    الدبابات تدخل الضفة للمرة الأولى منذ 23 عامًا.. ووزير جيش الاحتلال: إخلاء مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس ومنع عودة سكانها    شدد على رفض أطروحات التهجير عربيًا ودوليًا.. أبو الغيط: لن يُسمح بتعرض الفلسطينيين لنكبة ثانية أو تصفية قضيتهم    شهد 29 اتفاقية تنموية.. 50 مليار ريال فرصاً استثمارية بمنتدى الأحساء    موجة برد صفرية في السعودية.. «سعد بلع» يظهر نهاية الشتاء    زياد يحتفل بعقد قرانه    كشافة شباب مكة تقلد محمود (المنديل والباج)    الطباطيبي يزفون عصام وهناء    وقفات مع تأسيس السعودية وتطورها ومكانتها المتميزة    ضيوف منتدى الإعلام يزورون "مكان التاريخ"    ملتقى الأحباب يجمع الأطباء والطيارين    في جولة" يوم التأسيس" ال 23 من دوري" يلو".. قمة تجمع الحزم ونيوم.. ونشوة الطائي تهدد البكيرية    آل نصفان يهدي السعودية لقب بطولة ألمانيا للاسكواش    "العريفي" تشارك في اجتماع تنفيذي اللجان الأولمبية الخليجية في الكويت    مختبر ووهان الصيني.. «كورونا» جديد في الخفافيش    السعودية تستضيف النسخة ال 27 لبطولة مجلس التعاون الخليجي للجولف في جدة    "غينيس" توثق أكبر عرضة سعودية احتفاء بذكرى يوم التأسيس في قصر الحكم    أمير الرياض يرعى احتفال الهيئة الملكية والإمارة بذكرى «يوم التأسيس»    الدار أسسها كريم ٍ ومحمود    ماذا تعني البداية؟    مسيرات الحب في ذكرى يوم التأسيس    يوم التأسيس.. يوم التأكيد    الجامعة العربية: محاولات نزع الشعب الفلسطيني من أرضه مرفوضة    أنشيلوتي يتغنى بسحر مودريتش    لماذا يحتفل السعوديون بيوم التأسيس ؟    الأمر بالمعروف في جازان تحتفي "بيوم التأسيس" وتنشر عددًا من المحتويات التوعوية    رئيس "سدايا": يوم التأسيس .. اعتزاز ممتد على مدى ثلاثة قرون من الأمجاد والنماء    ماذا يعني هبوط أحُد والأنصار ؟    محمد بن زقر في ذمة الله !    أمير الرياض يعزّي في وفاة الأميرة العنود بنت محمد    فرع "هيئة الأمر بالمعروف" بنجران يشارك في الاحتفاء بيوم التأسيس    برعاية مفوض إفتاء جازان "ميديا" يوقع عقد شراكة مجتمعية مع إفتاء جازان    وادي الدواسر تحتفي ب "يوم التأسيس"    برعاية ودعم المملكة.. اختتام فعاليات مسابقة جائزة تنزانيا الدولية للقرآن الكريم في نسختها 33    لا إعلان للمنتجات الغذائية في وسائل الإعلام إلا بموافقة «الغذاء والدواء»    مشروبات «الدايت» تشكل خطراً على الأوعية    









المدافعة الحضارية في ملحمة المسيرة الإنسانية
نشر في الحياة يوم 20 - 02 - 2010

منذ أن خلق الله تعالى الخلق، واستخلف بني آدم في الأرض، ومسيرة الإنسان في صراع مستمر مع نزعات النفس الغلّابة لأجل التفرد البشري بالوجود، أو معارك صراع الإنسان مع أخيه الإنسان حول الزعامة والنفوذ، أو من خلال رهق الصناعة الفكرية أو جهد إنشاء الحضارات والحفاظ عليها. كلها ملاحم اختلط فيها الدم بالعرق والفرح بالحزن والضيق بالفرج والبناء بالهدم. إنها ملحمة المدافعة الباقية بين كل القوى المسيطرة في الأرض؛ سواء كانت قوى مادية أم معنوية، قوى للخير أم للشر، وهذا الدفع الدائم بينها صاغ تاريخ الإنسان على مرّ السنين، ورسم حدوداً كثيرة متداخلة بين الحق والباطل، لم تكن لتعرف لولا شدة تلك المعارك واقتراب ميادينها من جميع البشر، فساهم الوحي وتعاليم الرسل والأنبياء بضبط تلك العلاقات المتصارعة وإظهار حدودها والحكم على صحتها بالرد أو القبول. يقول الله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» (سورة البقرة، آية 40).
وقال تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)» (سورة الحج).
هذه الآيات المحكمة العجيبة في معناها ودلالاتها على حقيقة هذا المسير الملحمي في حياة الإنسان، تؤكد حقائق مذهلة لمن يخوض هذه الغمار من الدعاة والمصلحين، أشير إليها بإيجاز، مع التأكيد أنها محاولة للفهم والاعتبار من دلالات تلك الآيات وليس فيها جزم بالمعنى والله العالم بالمراد:
أولاً: إن المدافعة التي يقوم بها المسلمون عن الحق ليست عن المسلمين بالخصوص، بل هي عن كل المظلومين المحرومين في الأرض على اختلاف أديانهم وبلادهم، فلولا دفع المسلمين عن الحق الذي يؤمنون به لهدمت الصوامع والبيع لليهود والنصارى وغيرهم، وهذا يجعل خندق المسلمين في المواجهة مع الظالمين والبغاة ليس مقصوراً على جنس ودين؛ بل هو جامع لمكونات عدة تُظهر عالمية الشهود والريادة التي ينضوي تحتها الكثير من البشر. (انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 9/281). فالنصرة الإسلامية للمستضعفين في الأرض من خلال المواثيق الأممية والجمعيات الحقوقية، هي من قبيل المدافعة المشروعة وحلف الفضول مثال نبوي للمشروعية.
ثانياً: إن الظالم الباغي قد يُقهر ويمكّن للمؤمنين في الأرض، ليس بالعدد والعتاد المادي فقط، بل بقدر إقامتهم للصلاة التي تعني إقامة الدين، وإيتاء الزكاة يدل على الدور التكافلي بين المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مدى تحويل الشريعة إلى روح تسري في مجالات الحياة المتنوعة، فهذه الأدوات هي أدوات النصر المستديم في المعركة الحقيقية مع المعتدين والجبارين في الأرض. (انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور 9/284). غير أن هذا المعنى يُشعر أحياناً بالانكفاء عن المواجهة المادية والحسم الميداني، ولا أظن الآية تعني ذلك بدليل الإذن بالمدافعة المادية، ولكنها تدل صراحة على أن التمكين غير الانتصار المادي، فقد ينتصر القوي في المعركة ولكن يهزم في البقاء منتصراً ومحافظاً على قوته ومطبقاً لمبادئه التي ضحى من أجلها، لهذا جاءت معايير التمكين من خلال الفعل المجتمعي التكافلي الإصلاحي، بشهادة حال الأمم السابقة التي ورد ذكرها في الآيات (قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين...) التي أبانت تلك الحقيقة واضحة، ولكن ليس للأعيان اللاهية؛ بل للقلوب الواعية التي تسير في طريق الملحمة الشائك الصعب وهي تعلم أنه طريق النجاة والآمان.
ثالثاً: بيّنت الآيات أن التدافع بين أهل الحق والباطل ناموس كوني، فلولا هذا الدفع لفسدت الأرض، وهذا المعنى يؤكد أن دفع أهل الإيمان للباطل بمختلف أشكاله وأحواله، ليسا دفعاً بغرض الإهلاك والإفساد وإفناء المقابل أو الهيمنة وإلغاء الخصوصية، بل هو من قبيل الدفع بالتي هي أحسن، كما في قوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)» (سورة المؤمنون). وقوله تعالى :»وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)» (سورة فصلت).
يقول الإمام الطبري في معنى الدفع: «ادفع يا محمد بالخُلّة التي هي أحسن، وذلك بالإغضاء والصفح عن جهلة المشركين والصبر على أذاهم، وذلك أمره إياه قبل أمره بحربهم» (تفسير الطبري 19/67) فالأمر هنا بالدفع بالتي هي أحسن وليس بالحسن فقط، وهو متوجه للمشركين وليس المسلمين فحسب، والحكم بأن الآية منسوخة بآية السيف، (كما ذكره الطبري والبغوي في تفسيره 5/427) غير صحيح بإطلاقه ومبالغة في الحكم بالنسخ لآيات كثيرة دعت الى المسالمة بين المسلمين وغيرهم، يقول الإمام الزركشي، في كتابه «البرهان في علوم القرآن»: «ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف من أنها منسوخة بآية السيف قول ضعيف، فهو من المُنْسأ - بضم الميم - بمعنى: أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما، لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، ليس بنسخ، إنما النسخ: الإزالة، حتى لا يجوز امتثاله أبداً... فليس حكم المسايفة ناسخاً لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته». (انظر: البرهان للزركشي: 2 / 43-44، علوم القرآن للدكتور عدنان محمد زرزور ص210)، فالمدافعة بالمسالمة قد تكون في أحيان كثيرة من الدفع بالتي هي أحسن ولو كانوا كفاراً ومشركين، وما سمّي في عصرنا الحاضر بصدام الحضارات وما بُني عليه من نظريات عدائية وإقصائية لبعض الأمم والشعوب، هو اتجاه نحو الإفساد من خلال تسويغات الصراع بين الحضارات، والأمة الإسلامية في علاقاتها المدنية مع الحضارات الأخرى قائمة في شكل واضح نحو التدافع بالتي هي أحسن، أو من خلال قانون التعارف وإلغاء التمييز إلا على أساس التقوى، كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)» (سورة الحجرات).
يقول ابن عاشور في تفسيره: «واجب بثّ التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم» (التحرير والتنوير 14/32). وهذه المعاني الريادية للأمة تؤكد مكانتها في الشهود على غيرها من الأمم، ولا تكون أمة شاهدة على غيرها إلا بالمعرفة التي تنافي الشك والجهل، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) للشاهد: «ترى الشمس، قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع» (صححه الحاكم)، والشهادة أمانة في التحمّل وعدالة في التبليغ، فالأمة الشاهدة على غيرها من الأمم لا بد من أن تمتثل لذلك الوصف بالمعرفة المكتسبة وتعريفها للغير، وبالعدالة والأمانة التي تسري بين أبنائها من خلال صلاحهم وقيامهم بشروط التمكين الذي ورد في أية المدافعة من خلال القيام بالصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تكون أمتنا بخير وعلى مستوى التحضر المنشود والخيرية الظاهرة إلا بتلك الأوصاف المحتمة، وعلى هذه السنن لا ينبغي أن ينفك الخطاب الإصلاحي عن هذه المقومات الضرورية لمشكلات التخلف والضعف التي نعاني منها، كما لا ينبغي التعامل مع الأمم والشعوب على أساس المبارزة والمواجهة القتالية، فليس هذا الميدان سوى حلقة واحدة في سلسلة الميادين التنافسية الأخرى القائمة على المعرفة والقيم ونشر الفضائل بين الخلق، مما تخلت عنها كثير من مجتمعاتنا الإسلامية وامتنعت من الخوض في غمارها، على رغم ضرورتها في صناعة التغيير والقيام بالتبليغ.
* كاتب سعودي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.