اليونان بالنسبة إلى جميع الذين قضوا إجازاتهم الصيفية في جزرها وعلى شواطئها الجميلة هي» حالة روحية اكثر مما هي دولة» وهي وفق كلمات اللورد بايرون الذي لقي حتفه وهو يدافع عن حريتها «موروث خالد من التاريخ العريق والمضئ الذي عمره آلاف السنين». يتحتم وللمرة الثالثة خلال أشهر معدودة على اليونانيين أن يقدموا حلاً لأزمة الحكم المحتدمة في البلاد مع قرار رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس بتقديم استقالة حكومته والدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة. يجمع المحللون اليونانيون على اعتبار هذا التوجه علامة على ضعف موقف تسيبراس، وأيضاً مؤشراً إلى عجز النظام السياسي ككل وفشله في ايجاد الحلول الناجعة لمشاكل البلاد المتراكمة منذ سنوات. الانتخابات التي دعا اليها تسيبراس قد تفضي الى حلول للصراعات والخلافات التي تواجه حزب سيريزا، ولكنها لن تؤمن اي انفراجات ضرورية تحوي ما يفترض وجوده من عناصر قوة من شأنها أن تنهي أزمة إدارة الدولة لاسيما أن التفتت والانشقاقات تعصف داخل كل الأحزاب والتنظيمات السياسية الفاعلة، وتكاثر المواجهات السياسية والإيديولوجية بين بعضها بعضاً، يحول دون شق الطرق الوعرة التي تعيق القيام بأي إصلاحات لإخراج الاقتصاد من غرفة الإنعاش الأوروبية، وتنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها في اتفاق الإنقاذ الثالث. أظهرت العملية الانتخابية السابقة وما رافقها من حملات دعائية حجم ومدى تلوث المناخ السياسي، وانعدام الثقة لدى الفئات الواسعة في المجتمع بنخبه السياسية الطافية في فضائح الفساد، وغياب اي شكل من التوافق السياسي بينها حتى على اوليات الدولة وكيفية حماية كيانها المؤسساتي من التداعي الذي يتقدم بوتائر سريعة. وصل تسيبراس الى رأس السلطة التنفيذية حينما كانت الدولة تختنق في وحول الأزمة المالية والاقتصادية التي ارتقت الى مستوى كارثة الإفلاس المحدقة، وفاجأ الجميع حتى داخل حزبه والشركاء في حكومته بقرارات تقشفية تتناقض مع تفكيره السياسي وشعاراته الانتخابية، وانكشف لاحقاً ان الاتفاق الذي عقده مع الأوروبيين لم يكن الا نسخة مطابقة للاتفاق الذي كان امتنع عن وضع توقيعه عليه، ولو انه تضمن بشق انفس الجانبين تعديلات ليست جوهرية خضوعاً لنتائج الاستفتاء العام الذي رفضته غالبية 60 في المئة من اليونانيين. هذا الانقلاب على افكاره وانكشاف خداعه لناخبيه لم يؤثر في شكل ملحوظ على صورته كزعيم على المستوى الوطني يلتف حوله العدد الأضخم من الناس، فلقد كشفت نتائج آخر استطلاع للرأي اجري في اواخر تموز الماضي ان «سيريزا سيفوز بنسبة 33.6 في المئة من اصوات الناخبين في الانتخابات المبكرة المقبلة في مقابل 17.8 في المئة لحزب الديموقراطية الجديدة، و6.1 في المئة لحزب الوسط». ويرى مراقبون ان سيريزا قد يرفع نسبة فوزه الى 37 في المئة، وإذا حصل على هذه النسبة فإنه لن يكون في حاجة الى اقامة تحالف حكومي مع اي حزب آخر، وسيحكم وحده».واعتبرت جريدة «غارديان» ان استقالة تسيبراس ودعوته الى الانتخابات العامة محاولة منه للحصول على الدعم في صراعه مع حركة التمرد في حزبه، وبهذا يكون قد حوّل الإرادة الشعبية الى ارادة سياسية». تأييد ودعم قطاعات واسعة من اليونانيين من انصار اليسار المتطرف، وطالبي قطع الجسور مع الاتحاد الأوروبي لتسيبراس وسيريزا، وإعجابهم واندهاشهم لأسلوبه في ادارة المفاوضات مع الأوروبيين وصندوق النقد الدولي، لم تقلل وبأي شكل من الأشكال من تعلقهم بالمتمردين عليه وبالمنشقين من حزبه الذين شكلوا حزباً منافساً، وهو بالتأكيد لن يضيع هذه الفرصة الذهبية وسيستغل هذا التأييد والدعم لتعزيز حظوظ حزبه في الانتخابات». تسيبراس (41 سنة) وعلى رغم خسارته وهزيمته في مارثون المفاوضات مع الأوروبيين، مازال يتبوأ المرتبة الأولى في لائحة السياسيين الأكثر شهرة وتأييداً في المجتمع، وذلك يعود لحيوية الشباب التي تعتبر احد العناصر التي تمنحه عنصر تأثير اضافي على متلقي خطاباته، فضلاً عن شخصيته الجذابة ذات الكاريزما التي تنقص خصومه ومنافسيه السياسيين، فهو يتصرف على سجيته، وفي بعض الأحيان يتغاضى عمداً عن مشاعر الناس حياله لدرجة انه يسحرهم بأنغام عباراته الشعبوية التي ادار لها ظهره، من دون تجاهل قدرته الفائقة على الإقناع التي يستمدها من نظافة يده وعدم سقوطه في وحول الفساد التي أغرقت الزعماء السياسيين الذين حكموا خلال العقود الماضية، والذين تزدحم سيرهم الذاتية بحكايات فساد مخزية انطبعت في الذاكرة الجماعية والفردية في المجتمع. الناس كما هو معروف لا تنسى ما ارتكبته الحكومات السابقة وأحزابها من عمليات نهب منظم للثروة الوطنية والمال العام أوصلت البلاد إلى ما تعانيه الآن من أزمات حادة «جعلت من حياتنا أكثر مرارة من العلقم وألقت مستقبل أطفالنا في المجهول» وفق وصف الخمسيني الياس تيغانيس مالك متجر في وسط العاصمة اثينا» في حديث إلى جريدة «كاتميريني». ناخبو تسيبراس يؤمنون وبأفراط برأي المحلل السياسي اليوناني توماس غيراكيس بأنه» شن حرباً حقيقية على المفوضية الأوروبية أحرز فيها أفضل ما يمكن توقعه من مكاسب لبلاده وشعبه»، و»يحمّلون البيروقراطيين والسياسيين في منطقة اليورو مسؤولية ارغامه على قبول الشروط القاسية والظالمة في الخطة الإنقاذية الثالثة ولا يرون له اي ذنب شخصي في كل الوقائع والتطورات التي دفعت بالمفاوضات الى هذه النهاية». ويتضح من استطلاع اجراه مركز (Metron Analysis) في تموز الماضي «ان 61 في المئة من اليونانيين يوافقون على نهجه وسلوكه وقراراته كرئيس للوزراء، فيما بلغ دعم المشاركين في الاستطلاع لحزبه سيريزا 33.6 في المئة وهي نسبة تجعله الحزب الأكثر شعبية في الخارطة السياسية الراهنة في البلاد»، ولكنه مع ذلك كما يجمع المراقبون لن يتمكن من تحقيق غالبية في البرلمان تؤهله لتشكيل حكومة من اعضاء حزبه فقط، وما يحتاج اليه هو غالبية نيابية كافية لكي يمرّر التشريعات التي تتيح له الإيفاء بالتزاماته أزاء الدائنين، وتنفيذ بنود الخطة الإنقاذية التي لولا دعم نواب المعارضة لها خلال عملية التصويت في البرلمان، لما كان نجح في جمع العدد الكافي من الأصوات بسبب معارضة مجموعة كبيرة من نواب حزبه والأحزاب الشريكة معه في الحكومة وبررت المعارضة تمريرها في رغبتها في إنقاذ البلاد من الإفلاس. ويتوقع محللون ان يحقق تسيبراس ما يسعى اليه من غالبية فعلية في البرلمان، ولكن آخرين يؤكدون انه حتى في حال مرّ كل شيء كما يريد ويرغب، فإنه سيواجه اختباراً حقيقياً خلال الأشهر القليلة المقبلة حينما يبدأ اليونانيين يشعرون في شكل حقيقي وملموس بأنعكاسات وآثار الاتفاق السلبية في حياتهم اليومية، وهذه السيناريوات المحتملة تحتم عليه قدراً كبيراً من الحنكة الديبلوماسية والمرونة السياسية والسرعة في اتخاذ القرارات الجريئة في اللحظة الحاسمة للفرص المتاحة بحكم متغيرات الواقع السياسي والمجتمعي التي ستنشأ واقتناصها قبل ان تتزحلق او تفلت من بين يديه، وإلا فإن نصيبه سيكون الفشل ونتيجته ستكون خسارته شعبيته وانصراف انصاره عنه، والظاهر من ممارسته السياسية حتى الآن هو تعاطيه الذكي مع هذه الفرص، فهو يتجاهل خصومه في حزبه، ولا يعير لاتهامات وانتقادات منافسيه في المعارضة الاهتمام، بل وذهب الى الأبعد حينما نصب اعمدته السياسية في حيز يسار الوسط في السياسة اليونانية الذي كان يشغله الحزب الاشتراكي (باسوك) القريب للغاية من التصدع والتداعي. باسوك هو نفسه الحزب القوي الذي كان ابرم معاهدة البرنامج الإنقاذي الأول العام 2010 ولكنه في الانتخابات الأخيرة أوصل وبشق الأنفاس 13 نائباً فقط الى البرلمان الحالي من أصل 300، فيما الحزب اليميني المحافظ «الديموقراطية الجديدة» يتعثر في متاهاته الداخلية ويقوده منذ استقالة زعيمه السابق رئيس الحكومة اندونيس ساماراس رئيس موقت. ووفق المحلل ليفتريس باباديماس فإن» الكثير الكثير من اليونانيين أصابهم الإعياء والتعب والسأم من الأزمة التي تعصف ببلادهم منذ اكثر من خمس سنوات، ويعتقدون وبقناعة تامة بأن تسيبراس يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء السياسي، ولكنهم في الوقت نفسه يشككون في قدراته على أن يصبح زعيماً قومياً». ويضيف «ميزته أنه يكذب أفضل من الآخرين، وحينما يتحدث عن مشاكل وهموم الناس يبرع في استخدامها واستغلالها لزيادة شعبيته والتفاف الناس حوله». التعاسة أن تكون يونانياً تسيبراس غادر وديان وحقول اليسار المعتدل، وأدار ظهره لماضيه الشيوعي، وغدر برفاقه الماويين والتروتسكيين واستبدلهم جميعاً بأعدائه الذين ظل حتى قبل اسابيع يشهر كراهيته لهم واحتقاره لأفكارهم وبرامجهم، ويشير استطلاع للرأي الى ان نسبة 36 في المئة التي احرزها سيريزا في الانتخابات ستتضاعف لو اجريت الانتخابات المبكرة الآن، وذلك مع ارتفاع نسبة الذين يفضلونه شخصياً زعيماً لهم الى 60 في المئة وفق استفتاء جديد وهذا تحوّل مذهل في شعبية سياسي تنكر لأفكاره ونكث بوعوده لناخبيه. ما يفسر سلوك تسيبراس الجديد ونزعاته الفكرية والسياسية المغايرة، ودوافع «انحرافه» الإيديولوجي هو يقينه من ان خيبة امل اليونانيين من جميع سياسيي البلاد الذين حكموها خلال العقود الأخيرة، سوف لن تنسيهم عذابهم السيزيفي من فضائح فسادهم التي تزكم الأنوف وغياهب آلام البطون الخاوية، وهي لن ترتقي الى مستوى الخيانات الإيديولوجية وضياع معاني الكلمات في الترجمة. في كتابه «قمة التعاسة أن تكون يونانياً» الذي صدر العام 1975 يحدّد مؤلفه نيكوس ديمو معنى التعاسة اليونانية في ما يسميه «المبالغة و الإفراط» ويوضح «ان اليوناني يفعل كل ما في وسعه لتكبير وتوسيع الفجوة بين رغباته وإمكاناته ومؤشرات واتجاهات الواقع الذي يعيش فيه وبحدود تتنافى مع المنطق، مرتقياً بمتطلباته بما يجافي المنطق، بل وحتى الذهاب الى اقصى ما يمكنه في قلب الطاولة على نفسه والآخرين، وتلبيد الغيوم النفسية في محيط دائرته العائلية والمجتمعية» ولكن هل هذا وحده كاف لتفسير هذه الانتقالات الفجة في مزاج الرأي العام اليوناني؟، ربما وإلا كيف نستطيع ان نفهم اسباب استقالة وزير المال السابق فاروفاكيس بعد الحماسة الشعبية المنقطعة النظير لخطاباته ضد الخطة الإنقاذية ولدعوته إلى (Grexit)، ومن ثم وبعد مرور ايام لا تتعدى اصابع اليد يُفاجأ الجميع بموافقة البرلمان على اتفاق بخطة ثالثة اقسى بشروطها من تلك التي كان رفضها. يقول الكاتب ديمو الذي بلغ الآن الثمانين في كتابه المذكور : «مبدئياً، اليوناني يتجاهل معطيات الواقع، ينفق ضعف مدخولاته المالية، يوعد بتحقيق ثلاثة اضعاف ما بوسعه القيام به، يدّعي معرفة أربعة أضعاف ما تعلمه في المدارس و الجامعات، يعبر عن أحاسيس تزيد خمسة أضعاف عما يشعر به فعلاً». هل يعني كل ذلك أن الإفراط عورة قومية؟. يجيب ديمو «المبالغة والإفراط هي العنوان الرسمي للإنسان اليوناني، كما هي السبب الأساسي في تعاسته، وفي الوقت نفسه رمز مجده الغابر وفخره الشخصي ومكابرته».