كم مرة يا سيدي سمعت في المجالس والمكاتب من يقول إن في أسواق الخضار رزقاً واسعاً لمن استيقظ باكراً، وحضر المزادات التي تعقد فجراً واشترى بالجملة ثم باع بالتجزئة؟ أخمن انك سمعت هذه القصة مئات المرات، وان من كانوا في المجلس يتساءلون لماذا يبحث الشباب عن وظائف بأجور منخفضة ولديهم فرص مثل هذه تدر عليهم في يومين أو ثلاثة ما يعادل راتب شهر كامل، ولماذا يترك منجم الذهب هذا في أيدي الأجانب؟ وكم مرة يا سيدتي سمعتي الاسطوانة نفسها لكن في مجال مختلف هو غالباً التجميل، أو تجارة الشنطة، وتساءلتن لماذا لا تعمل السعوديات في المهن الحرة التي تعمل بها المقيمات والتي تدر ذهباً بدورها. شخصياً كنت أيضاً أشفق على موظفي الأمن مثلاً، عندما أراهم يعملون 12 ساعة بأجر زهيد يذهب ربعه أو ثلثه في الحسم الاستبدادي الذي يمارسه مديروهم أحياناً، وكنت أقول، لو أمضى هذا الواقف على رجليه طوال اليوم ساعتي الفجر في سوق الخضار لأصبح ملك نفسه و «عين خير». ويبدو أن المسألة تتعلق بالتيسير المأخوذ من «كل ميسر لما خلق له» فالكثيرون لا يملكون القدرة التي نتوقعها، فالمسألة ليست استيقاظاً مبكراً وذهاباً إلى سوق الخضار، أو أي من أماكن الرزق الوفير، إنها تتعلق ب «الكاريزما»، النفسية، الحضور الشخصي، الجرأة، طلاقة اللسان، الطموح، وأشياء أخرى كثيرة، ولو كان الأمر سهلاً لذهب الجميع، ولو ذهب الجميع لشغرت الوظائف متدنية الأجر إلى درجة تضاعفت معها الأجور وجذبت الجميع إليها مجدداً. لو كنا كلنا تجاراً لما كان بيننا مستهلكون، ولما وجدنا موظفين وعمالاً يشتغلون لدينا لانجاز أعمالنا في أي مجال كانت، وهذا لا يعني إحباط الحالمين، ولكنه يعني مواءمة، أو محاولة المواءمة بين الواقع والحلم على المستوى المعيشي والاقتصادي. تأسف للفرص الضائعة، وتشفق على الكثيرين، وسيزداد هذا الأسف مع ندرة وجود المستثمرين في مواهبهم، في مهن حرة، فالخياران شبه الأوحدين هما الوظيفة، والتجارة، والتجارة في مفهوم الكثيرين هي التجزئة، بينما تكمن في عقول الكثيرين والكثيرات مواهب ومهن يمكن أن تحقق ذواتهم، وتطعم بطونهم وتكسي ظهورهم، ويمكن أن تتطور إلى أعمال تصبح مجدية مع الوقت. في مثل هذا الاقتصاد يجب أن لا يبحث الناس عن وظائف فقط، بل يضيفون إليها البحث عن أنفسهم، لأن إيجادها، والإبداع في تنميتها ربما يجعلهم هم من يوظف الآخرين ويتيح لهم فرص الرزق الصغيرة التي يدور الغالبية في حلقتها المفرغة. [email protected]