لا يهم أن السيد بلير «غير آسف» على خياره إشراك بريطانيا في الحرب على العراق، وغزوه واحتلاله. قد تكون هذه وجهة نظر، وإن خالفها معظم البريطانيين، وإن كان رومان بولانسكي أخرج فيلماً يرسم له صورة غير مجيدة، تذهب به إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، بينما لجنة التحقيق البريطانية – في الواقع وليس في السينما - التي استمعت إليه في آخر الشهر الماضي «ليست محكمة»، كما لم يتوقف رئيسها عن تكرار القول... وإن كانت الصحافة الشعبية تسميه «كانيش الأميركان»، والكانيش (أو البودل بالانكليزية) كلب صغير الحجم، يمتاز بالطاعة، وليست له من وظيفة سوى تسلية صاحبه. لا يهم أن السيد بلير كذب على البريطانيين كما يعتقدون بحزم، حين ادعى أن في يد صدام حسين أسلحة دمار شامل قابلة للاستخدام «خلال 45 دقيقة»، وهي تنويعة في السيناريو على ذلك الكيس الصغير من الطحين الذي لوح به أمام تلفزيونات العالم الجنرال كولن باول كتجسيد للأسلحة البيولوجية العراقية القادرة على القضاء على العالم. وهكذا استوجب الخطر الداهم عدم الحصول على موافقة الأممالمتحدة على عمل عسكري. ويعتقد البريطانيون بأن رئيس وزرائهم آنذاك تلاعب بهم وبالبرلمان البريطاني للحصول على تصويته الايجابي في 18 آذار (مارس) 2003، قبل يومين من الهجوم. وأنه قبل ذلك بعام، كان وعد الرئيس بوش بإشراك بريطانيا في تلك الحرب، في جلسة خاصة في مزرعة الأخير التكساسية: لا ثم نعم، يتلعثم الرجل الفصيح. أمضى بلير ست ساعات يجيب عن أسئلة لجنة تحقيق شكلها، مضطراً ربما، خلفه رئيس الوزراء الحالي المستر براون، الذي سيخضع للاستجواب نفسه الشهرالمقبل. قام الأخير بما في وسعه لتمييع تطلب التوضيح ولامتصاص نقمة الناس على توريط بريطانيا بما لا يخدم مصالحها ولا شأن لها به. اختار لجنة «ضعيفة» كما نُعتت، تخلو من القضاة ومن المختصين بالعراق. ولكن الجلسات التي حضرها أفراد من عائلات الجنود القتلى وكثير من الصحافيين، أذيعت على الهواء مباشرة، فاستحضرت شيئاً من ذلك الجرح المفتوح. ما زال بلير يحتفظ بقناعاته ذاتها. فلو وجب الأمر، ولو كان في السلطة، لناصر مهاجمة إيران، حيث «الخطر هو ذاته». لا يهم إن كان يخلط كل شيء معاً حين يسترسل في إيضاح ذاك الخطر، فيصل بسرعة إلى محاكمة النوايا والطموحات وليس الوقائع، بينما هو ألمع زعماء مدرسة «الواقعية السياسية». يتكلم طويلاً عن وحشية صدام حسين، عن تسببه ب «ملايين الضحايا للتخلص من أعدائه» (وهو يقصد الحرب العراقية-الإيرانية!) عن قتله الكرد والشيعة (وليس الشعب العراقي!)، عن خطر توريثه الحكم إلى أبنائه: سعيتَ إذاً من خلال الحرب إلى تغيير النظام؟ يتلعثم مجدداً، فهذه «المهمة» محظورة من قبل شرعة الأممالمتحدة. ثم ينطلق في تبريرات إيديولوجية سرعان ما تغلب عليها الديماغوجيا، تبريرات تستعيد مفاهيم الخير والشر التي بنى عليها بوش خطابه. ولا يهم أن بلير بدا أخرقاً حين أجاب عما إذا كان الغزو قانونياً، فقال إن المستشار القانوني للحكومة يعتبره كذلك! وهو بالمناسبة القاضي الوحيد الذي تبنى هذا الموقف، مخالفاً إجماع زملائه. ولا يهم أن الموقف المنبوذ للمستر بلير بخصوص غزو العراق (نعته بعض المحللين ب«الفضائحي»)، طغى على كل سجله السياسي، وانه البند الوحيد الذي بات يحضر ما أن يُلفظ اسمه، بل إن ظلال حرب العراق حالت منذ أشهر قلائل دون حصوله على منصب رئاسة الهيئة الأوروبية. لم يبق شيء من سجل الرجل الذي عمل على إعادة تشكيل حزب العمال، فأصبح «الجديد»، مكتسباً حيوية كان الجميع يعتقد أنها زالت عنه إلى الأبد، وفاز لثلاث مرات متوالية في الانتخابات، مما لا سابق له، واستمر في السلطة لعشر سنوات متوالية، إلى أن اضطر إلى الاستقالة منها بسبب أشباح تلك الحرب الملعونة. ما الذي يتبقى من نجاح بلير في تحقيق خلطته الخاصة من تعاليم ملهمه، أنطوني غيدنز، الغزير النظريات والإنتاج الفكري (وإن بقي كتابه عن «الطريق الثالث» هو الأشهر). من يذكر أن عهده شهد إقفال ملف الصراع العنفي في ارلندا الشمالية الذي دام لأكثر من ثلاثين عاماً، وأنه أصلح أنظمة التعليم والصحة، وأرسى عائداً أدنى للعاطلين عن العمل... وكان بذلك يبتدع ليبرالية جديدة معقدة، ممزوجة بقدر من اشتراكية ديموقراطية مطابقة ل «روح العصر». هل كلفت حرب العراق دافعي الضرائب الانكليز سبعة بلايين جنيه إسترليني؟ هل كلفت حياة آلاف الجنود الأميركيين والبريطانيين؟ هل دمرت العراق، ليس بناه المؤسساتية فحسب، وإنما بناه التحتية كلها التي لم ينجح (لم يكترث؟) الاحتلال حتى الآن في إصلاحها، فعاد العراقيون إلى العصر الحجري كما وُعدوا، يشربون ماء ملوثاً، ويعيشون في ظل التقنين الكهربائي، ووسط مجارير مبقورة تفيض في الشوارع. وما زالوا، وسيبقون طويلاً، يسجلون أعلى نسب إصابة بالسرطانات في العالم، ويمرضون بالكوليرا وتجتاحهم أوبئة فتاكة منقرضة. ما زالوا يعانون من فوضى عارمة ومن تخلع معمم، فيخطف أبناؤهم من الطرقات طلباً لفدية، ثم يذبحون على كل حال، أو يموتون بالمئات جراء عمليات انتحارية مجنونة. والأحياء منهم يعانون من سطوة حكم أرساه الاحتلال، هو مزيج من أقصى التخلف وأقصى الفساد، بلا أفق حتى الآن سوى تقاسم التسلط على البلد ونهبه. كل ذلك لا يهم. فمستر بلير أصبح، منذ ترك السلطة، مليونيراً. ليس بفضل براعته كمحام قدير، بل بفضل نشاطه الاستشاري لدى الرؤساء والملوك وبعض كبار المستثمرين في الخليج وجمهوريات من آسيا الوسطى. وعلاوة على المداخيل التي يدرها هذا النشاط، يتقاضى المستر بلير ألفي دولار عن كل دقيقة من المحاضرات الكثيرة التي يُدعى لإلقائها. وأما المنصب السياسي الوحيد الذي نجح في الاحتفاظ به، فهو صفة مبعوث «الرباعية» للشرق الأوسط. وطالما لا شيء يتحرك على هذا الصعيد، فقد لا يكون هذا منصباً سياسياً في الواقع، وكما يبدو أو يُظن، بل امتداد للنشاط السالف! بماذا يُشير رجل، هذا ما بقي من سجله؟ حذار سوء النصيحة!.