إن أكثر ما يواجهنا كعرب ويصيب وحدتنا في مقتل ويؤدي إلى حالة التشرذم والتباعد وتحولنا إلى جزر منعزلة يعود إلى غياب ثقافة الاختلاف المتحضر ولغة الحوار الراقي والتعبير الواضح عن المصلحة القطرية بلا مواربة أو التواء. كذلك فإن عملية الخلط الدائم بين المواقف السياسية والعلاقات الثنائية هي أمر خطير لأنها تنقل الخلاف مباشرة من أروقة السياسة والقنوات الديبلوماسية إلى ساحات الإعلام والتراشق اللفظي وتبادل الاتهامات التي تدور حول التجريم والتخوين والضرب تحت الحزام. ليس فينا من يقدر ظروف الغير أو من يتفهم طبيعة الضغوط على شقيقه أو نوعية الالتزام الذي يكبله، ولكننا نمضي دائماً بلا وعي وراء سراب لا يؤدي في النهاية إلى عائد إيجابي على الأمة وشعوبها. فإذا كنا منقسمين تجاه الأسلوب الفلسطيني الأمثل لمواجهة سياسات إسرائيل العدوانية التوسعية، فإننا نعترف في الوقت ذاته بأننا فشلنا في توظيف ذلك الانقسام لخدمة مبدأ «توزيع الأدوار»، فلدينا من يرى أن «المقاومة» هي السلاح الوحيد لهذه المواجهة، وهناك آخرون لا يزالون يعلقون أملاً على التسوية السلمية من خلال المفاوضات في ظل وعود أميركية وتسويفات إسرائيلية. وليس من شك في أن إخفاق العالم العربي في تنويع المواقف وتعزيز ثقافة الاختلاف بين أقطاره هو واحد من أخطر المشكلات وأكبر العقبات أمام المسيرة نحو المستقبل، وهنا يكون من الضروري أن نفسر عملية ذلك التصور النظري حتى لا نحلق في آفاق فلسفية مبتعدين عن أوضاع مؤسسية. وتتركز قراءتنا هذا الموضوع في المحاور الآتية: أولاً: إنني لا زلت أتذكر من سنوات عملي الديبلوماسي في العاصمة الهندية واندلاع الحرب بين الهند وباكستان على خلفية الصراع حول مشكلة كشمير، كيف كنت أندهش كثيراً عندما أرى أنه في غمار العمليات العسكرية والاشتباك المسلح بين الدولتين، كان السفيران الباكستاني في الهند والهندي في باكستان يلزمان موقعيهما من دون أية مشكلات أو حساسيات! بل إن كلاً منهما كان يعطى تسهيلات خاصة تتجاوز دوره في الأحوال العادية حتى يكون قادراً على القيام بمهامه بصورة كاملة. وتذكرت وقتها أحوالنا في العالم العربي عندما تسوء العلاقات بين بلدين شقيقين فتضعف البعثة الديبلوماسية في عاصمة كلٍ منهما وتتحول الأمور إلى تراشق إعلامي وسباب سياسي وتخوين قومي. عندئذٍ أدركت لماذا لم يتحقق لنا ما وصل إليه الآخرون! ثانياً: لقد حضرت محاضرة للسياسي الإسرائيلي المخضرم أبا إيبان، وزير خارجية الدولة العبرية الأسبق، وكانت تحت عنوان «الصراع العربي الإسرائيلي، قضية الفرص الضائعة» ويومها تحدث ذلك الصهيوني المخضرم عن محطاتٍ معينة في تاريخ العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين بدءاً من قرار التقسيم وصولاً إلى الحروب المتتالية مع العرب، مشيراً إلى أن الطرفين معاً قد أضاعا فرصاً متتالية كانت كفيلة بإحداث «اختراق» في ذلك الصراع الدامي، وقد جرت مناقشة بعد المحاضرة التي كانت في «النادي الديبلوماسي المصري» بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» وحمل الحاضرون بشدة على أفكار أبا إيبان وألقوا باللائمة على إسرائيل وسياساتها العدوانية ومخططاتها التوسعية، وقد تميز ذلك اللقاء بدرجة اختلافٍ عالية بين المحاضر الإسرائيلي والحضور المصري، ولكن حرص الطرفان يومها على تأكيد أهمية ثقافة الاختلاف في إطار مفهوم «الفرص الضائعة». ثالثاً: لقد شهدت الخمسينات والستينات من القرن الماضي حالة واضحة من الانقسام العربي نتيجة الاختلاف مع سياسات عبدالناصر الذي كان يحرِّك الشارع العربي ضد النظم التي لا يرضى عنها، وظهر معسكران مختلفان على الساحة العربية حيث أسهمت «حرب اليمن» في رفع درجة العداء بين الدولتين الكبيرتين مصر «الجمهورية العربية المتحدة» حينئذٍ والمملكة العربية السعودية، وجرت محاولة استقطابٍ ملحوظ غاب معها التواصل وتهدمت جسور الاتصال وقنوات التهدئة، وبرزت حربٌ إعلامية شديدة نالت من وحدة العالم العربي وتضامنه وكأنها كانت تمهيداً طبيعياً لهزيمة 1967 والنكسة العسكرية والسياسية التي لا زالت آثارها باقية فوق الأرض العربية. رابعاً: سوف تبقى زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات للقدس عام 1977 بمثابة علامةٍ فارقة في طبيعة العلاقات المصرية - العربية بل والعلاقات العربية - العربية برمتها، إذ إننا كعرب لم نتمكن من توظيف مبادرة السادات وزيارته لخدمة القضية الفلسطينية والجانب العربي عموماً في الصراع مع إسرائيل، بل إننا مضينا وراء ما يخالف ذلك فازدادت حدة الصراع السياسي والانقسام العربي والتشرذم القومي على نحوٍ غير مسبوق، فيه اتهاماتٌ بالخيانة والعمالة وبيع للقضية العربية الكبرى! وكان الأجدى بالعرب أن يقوموا بعملية ذكية لتوزيع الأدوار، فإذا كان الرئيس الراحل السادات قد غرد خارج السرب فإنه كان يمكن استخدام تغريده في تحقيق بعض المكاسب العربية الجماعية من دون المساس بالثوابت، ولكن ذلك لم يحدث وسجلنا فرصةً ضائعةَ جديدة بسبب عدم قدرتنا على فهم الحقائق وقصورنا في توظيف المواقف وتوزيع الأدوار. خامساً: إن مستقبل الأمة العربية ونظمها المختلفة في أقطارها المتعددة مرتهنٌ بقدرتها على استيعاب روح العصر وفهم ظروفه المختلفة لأن الدنيا تغيرت والعالم تحوَّل وسقطت أفكار القرن التاسع عشر وتوارت أفكار القرن العشرين وأصبحنا أبناء القرن الحادي والعشرين الذي تستخدم فيه القوى العظمى مفرداتٍ جديدة مثل «العولمة» و «صراع الحضارات» و «الحرب على الإرهاب»، وهي كلها مؤشراتٌ لأطروحاتٍ جديدة لعصر مختلف يحتاج من العرب إقامة «جسور التواصل» وفتح «قنوات الاتصال» والنظر بجدية إلى المدرسة السياسية التي تحترم لعبة «توزيع الأدوار» بل وتبرع فيها، إذ لا يمكن أن نستمر على سياسة الجمود والتعصب للفكر القديم والتمسك بالآراء البالية، بل لا بد للعرب من اقتحام القضايا المعاصرة والدخول مباشرة إلى المشكلات القائمة من خلال رؤية براغماتية تدرس الواقع ولا تكتفي بالتنظير والشعارات. سادساً: إننا عندما نتحدث عن «جسور التواصل» و «ثقافة الاختلاف» فإننا نتطلع إلى إرساء رؤية جديدة لا تقف عند حدود الاختلاف والتمسك به ولكنها تتجاوز ذلك إلى تفكيرٍ عميق وفهم دقيق لروح العصر ومفرداته، فأنا ألاحظ صراحةً أن ثقافتنا السياسية لا تزال عاجزةً عن التعامل مع الأساليب الحديثة التي تؤمن بأن الاختلاف بل والصراع أيضاً لا يمنعان قدرة الدول على اقتحام أوضاعٍ معينة والتعامل معها بشكل مباشر من دون مخالفاتٍ تذكر أو تجاوزاتٍ تسجل. إننا أمام عصرٍ سقطت فيه الحواجز والحدود ودخلت الأفكار الجديدة في مناحي الحياة كافة حيث لا مجال للجمود أو العزلة أو الانكفاء! وإذا طبقنا ذلك على الواقع العربي الحالي فسوف نكتشف أن هناك مجالاتٍ للحركة لم نطرقها بعد وتركناها فراغاً للآخرين وهو ما أدى بنا إلى الحالة التي نحن عليها الآن. سابعاً: إن الانقسام الفلسطيني على سبيل المثال بين حركتي «فتح» و «حماس» هو مؤشرٌ خطير لأنه يعني أن درجة النضوج ما زالت محدودة وأننا نتجه بحنينٍ نحو الماضي ولا نتطلع تجاه المستقبل، فلو استطاعت حركتا «فتح» و «حماس» أن تقبل كل منهما الأخرى على ما هي عليه من أجل المصلحة الفلسطينية العليا بدلاً من الحرب الكلامية والمبارزات الإعلامية ومحاولة كل منهما تشويه صورة الأخرى، لو أن الأمر اختلف عن ذلك لاستعادت القضية الفلسطينية عافيتها المفقودة وفرصها الضائعة. إنني ألح عليهما بقبول منطق «توزيع الأدوار» في إطار المصلحة الفلسطينية حتى نرفع أزمة الثقة المتبادلة ونعزز الثقة المطلوبة ونرتفع إلى مستوى العصر الذي نعيشه. وبالمناسبة فإن «توزيع الأدوار» هو أسلوب راقٍ في التعامل بين الإخوة والأصدقاء، فالمفاوضات يمكن أن تمضي متوازية مع المقاومة المسلحة وليست إحداهما بديلة للأخرى بل على العكس فإن استمرار المقاومة يعزز دور المفاوض ويدفع نحو تحقيق الأماني القومية للشعب الفلسطيني. هذه قراءة سريعة للمشهد العربي الراهن وأسلوب التعامل معه والذي نخسر كثيراً بعدم قدرتنا على تحقيقه، رغم أننا خير أمة أخرجت للناس وكان المنتظر أن نكون شيئاً مختلفاً تماماً بحيث تتحول مؤسسات الحكومة وهيئات المجتمع المدني إلى شبكة للتواصل مع الآخر واحترام ثقافة الاختلاف مؤمنين بالمقولة الخالدة للإمام الشافعي التي يقول فيها: «إن رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، كما نتذكر أيضاً مقولة فولتير الشهيرة: «إنني مستعدٌ أن أدفع حياتي ثمناً للدفاع عن رأي أختلف معه». عندئذٍ نتحدث بثقة عن جسور تواصل ممتدة وثقافة اختلاف قائمة. * كاتب مصري