هذه المرة، ومع فيلمها «سارق النور»، تحقّق المخرجة السورية المقيمة في البحرين، إيفا داود وثبتها السينمائية المُنتظرة. كأنما هي تحكّ جلد السينما لتنجلي مغامرتها عن فيلم تكاد تتكامل عناصره الفنية، في مزيج بديع ما بين الإمكانات السينمائية السورية، والإتاحات الإسبانية، عبر تعاون قد يكون فريداً، وربما غير مسبوق، إن لم يكن على المستوى العربي، فالسوري منه على الأقل. تأخذ إيفا داود القصة والسيناريو، وما أعدّت له من إنتاج، وتمضي إلى إسبانيا، حاملةً تجربتها الطموحة، على صعيد الأفلام الروائية القصيرة، وربما في البال تلك العبارة المنسوبة لوزير ثقافة إسباني، حين قال: «لو حكَّ أحدنا جلده، لخرج من تحته الجلد العربي». نمو رؤية سينمائية ما بين القلب والعقل والروح السورية، والجلد والشكل والأداء الإسباني، سوف تنمو رؤية سينمائية جميلة، تحمل الكثير من الوفاء للتجربة التي بنتها وأسّست لها إيفا داود، في أفلامها السابقة، خلال قرابة عقد من الزمن، في توقيعات بدت مدروسة ومُنتظمة على مستوى الشكل والمضمون: المرأة والرجل، واشتباك العلاقة بينهما، تسانداً أو تضاداً. الطوابق النفسية المتعددة والمعقدة للمرء، والتي لا تفصح عن بنيانها في سهولة. المعمار الدرامي المتداخل، في انتقالات تنفر من بساطة الحكاية وتبسيطها، نحو ما هو غير مُتوقع أو مُنتظر. الاشتغال البصري المُهتمّ بثنائية الضوء والعتمة. النور والظلام. والعناية بالتشكيل الفني بهما، بأداءات كان لها أن تتفاوت. «سارق النور» (19 دقيقة، 2015) خطوة أكثر ثباتاً ورسوخاً في تجربة إيفا داود السينمائية. أكثر صواباً في التسديد نحو الهدف. وأعلى تحققاً على مستوى التقنية والتنفيذ. لن نتجنّى هنا، فنقول إن أفلامها السابقة كانت مجرد محاولات أو تدريبات لسينمائية قادمة من عالم الاقتصاد، مشغولة بالفكرة والمقولة أولاً، وإن كان في ذاك حقّ، بل سنقول إن أفلامها الخمسة التي رأينا (لها ستة أفلام)، كانت خطواتٍ صاعدة، وسياقاً متطوراً، يمكن للمشاهد المتمعّن، والناقد الدارس، الانتباه إلى النضج الذي يتبلور فيها، والتشذيب الذي يتبدّى عليها، مانحةً من يُراهن عليها متعة الصواب. وإيفا داود، المخرجة السورية، البحرينية، التي درست الاقتصاد أكاديمياً، قبل أن تتفرّغ لعشقها وهاجسها السينمائي، فتدرسه وتتدّرب عليه وتشتغل فيه بدأب، مُثقلةٌ بأكثر من إرث. مرّة لأنها المثقفة التي تنظر إلى العالم بطريقتها، زاد من وطأة ذلك تخصّصها الأكاديمي العلمي، المُفترض به أنه لا يأبه إلا للمعايير الصارمة، والحسابات الدقيقة. ومرّة أخرى لأنها سيدة تنتمي إلى خلاصة تجارب، ما بين الأسرة السورية، والعائلة البحرينية، والتماسّ المتفاعل مع مجتمعات وفضاءات ثقافية متعددة. ومرّة أساسية مدفوعة بحسّها الإنساني الذي يتلمّس بشفافية رائقة معاناة البشر، بغضّ النظر عن الجنس واللون والعرق والدين والانتماء... عندما كان على إيفا داود أن تُنجز مشروعاً سينمائياً في «أكاديمية نيويورك للأفلام في أبوظبي»، جاء فيلمها الروائي القصير الأول «السندريلا الجديدة». ليس عبثاً أنها ستختار حينها أن تقدّم لنا، خلال أربع دقائق، قصة شاب عربي ثري، تتيسّر له سُبل الرفاهية كلها، لكنه يعيش في حال من الوحدة، ما يدفعه للاتصال برقم هاتف، عبر لعبة أوراق وأرقام، فيأتيه بصوت أنثى، تثير في خياله صورة الحسناء الشهيرة: «سندريلا»، المُفترضة والمُرتقبة والمأمولة للأمير الشاب، قبل أن يُصدم بمصادفة أن يكون الصوت لعاملة التنظيف لديه. لا يخلو «السندريلا الجديدة»، بأداء إيفا داود نفسها، وزميلها أحمد البنداري، من ارتباكات أفلام الطلبة، ومشاكل الفيلم الأول لمخرجه، من طراز الاعتماد على الصدفة المزدوجة، والاستخدام الغامر للموسيقى، وحركة الكاميرا، والأداء، ليجري تجاوز بعضها في الفيلم الثاني «عفريت النبع» (6 دقائق، 2011)، بأداء ماجدة سلطان، وأحمد الأنصاري، ودينا حسين... الفيلم الذي يشتغل على فكرة الاعتقاد بوجود جنّي في البيت، بسبب انقطاع المياه يومياً بدءاً من الساعة العاشرة ليلاً، لنكتشف السرّ بقيام العامل الآسيوي (الهندي على ما يبدو) بالاستحمام في خزان مياه البيت، كل مساء. مع تصوير أليخاندرو مونتيرو، سيبدو الاشتغال البصري في «عفريت النبع»، في حال أفضل نسبياً. لكن المشكلة تمثّلت في بناء السيناريو، الذي يقول الحكاية أكثر مما يخلقها فعلاً درامياً، مع أداء الممثلين التقليدي الطابع، فضلاً عن سيادة اللقطات المتوسطة، وطبيعة الحوار، و»الانسيرتات»، التي تليق غالباً بالمشهد التلفزيوني. ومع هذا يبقى ل«عفريت النبع»، الذي يدور في البحرين، أنه يلامس، وإن في شكل غير مباشر، بعضاً من حقوق العمالة المغبونة. تضامن مُضمر مع التُعساء يفصح عن نفسه، بلطافة. يمكن اعتبار الفيلم الروائي القصير «في غيابات من أُحبّ» (21 دقيقة، 2012) نقلة نوعية في مسيرة المخرجة إيفا داود، أولاً بتصويرها الفيلم في مدينة دمشق 2011، بالتعاون مع مدير التصوير حنا ورد، ومجموعة من الممثلين أمثال السوريين لمى إبراهيم، عدنان أبو الشامات، فادي صبيح، واللبناني باسم مغنية... وثانياً بتوطيد فكرة الاشتغال على الدراما التي يدور الجزء الأساس منها في جوانيات الشخصيات، وبالاتكاء على ملابسات سلامتها أو مرضها، العضوي أو النفسي، وانعكاس وتأثير كل منهما على الآخر. بين الواقعيّ والمتخيّل «في غيابات من أُحبّ»، دراما تنوس ما بين الواقعي والمُتخيَّل. الحقيقي والمُتوهَّم. تارة بسبب عوامل نفسية، جرّاء الفقد بالموت والغياب، وأخرى بسبب أعطاب عضوية كالإصابة بورم في الدماغ. دراما تدور في المسافة ما بين النفسي والفيزيائي، وتأثيراتهما على وعي الشخصيات، وسلوكها، وإدراكها، وعلاقتها مع الذات والآخر. الحاضر والماضي. الأنا والآخر. ربما يمكن الحديث، في تنفيذ الفيلم، عن سؤال تنظيم الانتقال ما بين مستويي الحدث الواقعي والمتخيّل، من خلال تنظيم وجهة نظر الرؤية ما بين الذاتي والموضوعي، وتجسيد الأثر الواقعي والأثر المتخيل. النفسي والفيزيائي. وتبرير انتقال الشخصيات ما بينها. أي الدخول في المتخيل، ومن ثم العودة إلى الواقعي... ولكن سبك الحكاية ذاتها، وتعدّد مستويات السرد، وانعطافاته، يجعل من فيلم «في غيابات من أُحبّ»، دراما مُبادرة، غير تقليدية، تثري نفسها وتتجدّد، مع التنويه بما هو غير مُتوقع ومُنتظر. تختلف المقاربة في فيلم «ربيع مرّ من هنا» (6 دقائق، 2013)، الذي كتبه وقام ببطولته الفنان عدنان أبو الشامات. الرجل الوحيد المتوحّد هنا، يعيش أكثر من زمن، في الوقت ذاته. زمنه الواقعي الآن، الذي يعيشه هذا الصباح، بوصفه رجلاً خسر أسرته في الحرب، المُطلّة بآثارها عبر نافذته، التي تنفتح على دمار هائل. وزمنه النفسي الذي يتحوّل بموجبه إلى رجل مليء الوجه بالتجاعيد. الرجل الهرم الذي يظهر ما إن ينظر عبر المرآة، التي يرى فيها ذاته الحقيقية، لا ذاته الواقعية. في التباس حاذق. «ربيع مرّ من هنا»، على ما فيه من قول وموقف سياسي، فيلم من دون حوار، يعتمد على الفنان عدنان أبو الشامات، وحده وبمفرده، في مباراة أداء، ولعبة الزمن، وآثار الفقد العميق، يتعزّز بالاختيار الموسيقي لمقطوعة «لاكريموسا» لموزارت، وتوظيف الصوت الحاضر الغائب، للطفلة الفقيدة، والمؤثرات السمعية لألعاب الطفولة القتيلة، لننتهي إلى كثير من الكلام الذي لم يُقل، والأحداث التي جرى إدراكها، من دون أن نراها. في نقلة ذات طبيعة خاصة، تمتلك قدرها من الإدهاش، لما فيه من برعة في التنفيذ، يأتي جديد المخرجة إيفا داود بفيلمها «سارق النور»، الذي وإن كان لا يبتعد جوهرياً، على مستوى الحكاية والاهتمام، عمّا سبق أن حققته داود من أفلام، بل ينتمي بقوة إلى نسقها على مستوى المضمون، إلا أنه سوف يُشكل إضافة فنية وتقنية خاصة، سواء للفيلم الروائي القصير السوري، أم الفيلم القصير البحريني، بما تمثله المخرجة إيفا داود من نقطة التقاء بينهما، انتماءً ومعايشة ومساهمة واتصالاً. مع «سارق النور»، بأداء مجموعة من الممثلين الإسبان، الذين أدارتهم إيفا داود باقتدار، ومنهم: أنغيل دي ميغيل (أدهم)، وماريا ريدروفيو (سولين)، وألوما إسكودير (لينا)، وجوليا فورنير (سارا)، وبالتعاون الإنتاجي السوري البحريني المتميز مع الإسبانية لورا مارتيل، وإسهام كل من مدير التصوير ميغيل دي أولاسو ماكغروغر، ومونتاج سيرجيو روزاس، وموسيقى خورخي ماغاس... نحن أمام فيلم متماسك، يرقى إلى مستوى الأفلام العالمية من هذا الطراز. توقيع إيفا داود على «سارق النور»، تتويجاً لمسارها السينمائي حتى اليوم، هو توقيع على سجلّ لا يدخله إلا السينمائي الذي بذل الجهد والوقت، ونزف الكثير تعباً وأرقاً. ولا شك أن إيفا داود تدرك أن تحدياتها السينمائية تعالت الآن وهنا، وتسامت، ونعرف أن لديها الكثير مما ينبغي أن تقوله، وتباهي به.