الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد أمر الله - تعالى- عباده بالفرار والهروب من المعاصي والذنوب إلى الطاعات وفعل الحسنات، ووعدهم على ذلك أتم الأجر وأكمله؛ وتوعدهم على المخالفة أشد العذاب، يقول الله - تعالى-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (50) سورة الذاريات قال القرطبي: "أي فروا من معاصيه إلى طاعته، وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم، وعنه: فروا منه إليه واعملوا بطاعته، وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه، وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر، وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم، وقال أيضاً: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم، وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله".1 وكل هذه الأقوال تدل على معنى الفرار إلى الله من كل ما يغضبه من الذنوب والمعاصي، والكفر والشرك، والاحتماء بالله، وذلك يكون بالعمل بطاعته، وكل ما يقرب إليه من الأعمال الصالحة. قال ابن القيم: "وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء، وهو نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، ففرار السعداء: الفرار إلى الله - عز وجل -، وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه، وأما الفرار منه إليه: ففرار أوليائه".2 فيا من أسرفت على نفسك بالخطايا، وحملتها المظالم والرزايا؛ لا تقنط من رحمة الله - تعالى-، وعد إليه واستغفره على ما صدر منك، وفر منه إليه، فإن الفار إلى الله من ذنوبه، والعائد إليه بعد هروبه؛ محبوب في الملكوت العليا، ألا ترى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبين فرح الله - تعالى- برجوع عبده إليه وفراره منه إليه جاء في حديث الحارث بن سويد قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن نفسه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا)، قال أبو شهاب بيده فوق أنفه، ثم قال: (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم: (فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح). فهذا يدل على أن الفرار إلى الله - تعالى- بالتوبة النصوح، وترك الذنوب؛ من الأمور التي يحبها الله - تعالى- ويثيب عليها. ولا بد من تكرار التوبة والفرار إلى الله - تعالى- كلما وقع الإنسان في ذنب حتى لا يكون للإنسان مفر من الله إلا إليه، ثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه - عز وجل - قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).3 إخواني: كما أن المسلم ينبغي عليه الفرار من الذنوب والمعاصي بالتوبة إلى الله - تعالى-، والرجوع إليه؛ فكذلك ينبغي عليه أن يفر من مكان الذنوب والمعاصي خاصة ما يكون في ذلك فتنة له، فلا بد أن يهجر أماكن اختلاط الرجال بالنساء، والمجالس التي يكثر فيها اللغو والباطل، وقد يفر المسلم بدينه من الفتن والمعاصي والفساد إلى أماكن آمنة كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن).4 وذلك في حال أن يكون الإنسان خائفاً على نفسه من الوقوع في الفتن، أو الانجرار إلى المعاصي مع عامة الناس، إذا لم يقبلوا النصح والإرشاد. فما أحوجنا إلى أن نفر من المعاصي، ونحتمي بالله - تعالى- الذي يجير من استجار به، والتجأ إليه. نسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعيننا على التوبة إليه في كل وقت وحين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.