تكرر مشهد الاحتجاجات الكبيرة في العاصمة الروسية مساء الخامس من مارس/ آذار، وتجمع نحو 15 ألف معارض في ساحة بوشكينسكايا في مركز موسكو، ونددوا بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز فلاديمير بوتين بحوالي 64 في المئة من أصوات الناخبين، ورغم أن حجم التظاهرة كان أقل من المتوقع، ما دفع المنظمين إلى إلغاء تجمعين احتجاجيين، وإعلان العاشر من الشهر الحالي موعداً جديدا لمواصلة حوار "الميادين" إلا أن "شعرة" الحوار السياسي لم تنقطع في شكل كامل بين السلطات والمعارضة، ولعل ما يعزز ذلك ظهور الملياردير ميخائيل بروخوروف "الجواد الأسود" في الانتخابات الأخيرة وسط جموع الغاضبين، بعد اجتماعه مع فلاديمير بوتين، وتكرار دعوته إلى تأسيس حزب جديد. تظهر في روسيا بوادر تغيرات كبيرة في الخريطة السياسية للبلاد، ليس أهمهما التظاهرات الاحتجاجية على طريقة "الربيع العربي" رغم أنها الأبرز للعيان. ويقود التحليل المتأني إلى أن المشهد السياسي مقبل على تغيرات جذرية تواكب طبيعة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في روسيا في العقد الأخير، دون إهمال العوامل الخارجية؛ التي تقسم إلى تأثير الحراك في البلدان العربية، والأزمة الاقتصادية العالمية، إضافة إلى التدخلات الغربية في السياسة الداخلية الروسية.المؤكد أن الحراك الشعبي المستمر منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية في 4 ديسمبر/كانون الأول 2011 بدأ يفرز قيادات جديدة إلى الساحة السياسية، لكنها لن تكون قادرة على المنافسة قبل أربع سنوات في الانتخابات البرلمانية العامة، وست سنوات في الانتخابات الرئاسية.ولعل أهم ما ميز تصرف السلطات هو تلقفها السريع للفكرة، الذي كرسته بتمرير تسهيلات لتشكيل الأحزاب السياسية، ومحاولة تنظيم انتخابات رئاسية نزيهة، وإجراء تعديلات في النظام الانتخابي لاختيار حكام المناطق والأقاليم، ما يعطي أي حزب جديد قد يتشكل إمكانية رؤية نتائج عمله على الأرض حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة. ومن المرجح أن يلعب بروخوروف دوراً مهماً في تأطير الحراك الجديد بالاستناد إلى النتائج التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة، فقد استطاع "الوافد الجديد" على الانتخابات تفجير مفاجأة، وسحب الأصوات الاحتجاجية ضد بوتين وحزب "روسيا الموحدة" إلى جانبه ما مكنه من نيل ثقة نحو 8 في المئة من أصوات الناخبين، ولابد من الإشارة إلى أن المدن الكبرى مثل موسكو وغيرها منحته المرتبة الثانية متقدما على منافسه الشيوعي غينادي زوغانوف.ويبدو الملياردير الشاب الذي جمع ثروات تناهز 18 مليار دولار جاهزاً لقيادة الحراك، ويحظى بدعم من رموز يمينية معروفة في البلاد مثل أليكسي كودرين وزير المالية السابق الذي شغل هذا المنصب خلال عشر سنوات، كما أنه يمثل جيلاً شاباً جديداً يطمح إلى لعب دور سياسي أكبر، وتجذب فكرة بروخوروف القائمة على ضرورة التحديث دون اجراء تغييرات راديكالية الكثير من أبناء الشعب الروسي المتعب من فكرة الثورات والدماء، ولهذا فهو قادر على جذب شرائح واسعة إلى حزبه الجديد من أنصار الأحزاب اليمينية المتطرفة، وأحزاب اليمين ويمين الوسط، وحتى من أنصار الأحزاب اليسارية، مع قرب أفول نجم زعيم الحزب زوغانوف الذي فوت على الحزب فرصاً كثيرة لتحقيق نتائج أفضل في الانتخابات منذ تراجع شعبية السلطة مع تزوير الانتخابات في 1996 ولم يستغل الفرصة السانحة في 1998 لقيادة حراك كان يمكن أن يسقط السلطة التي أوصلت البلاد إلى كارثة اقتصادية، وإشهار إفلاسها جراء سياسات "الإصلاحيين" والعلاج بالصدمة الذي اتبعوه وأثقل كاهل خزينة الدولة وأفقر الشعب. وربما لن يدفع زوغانوف وحده نتائج الانتخابات الأخيرة في حياته السياسية ففلاديمير جيرينوفسكي زعيم الليبراليين الروس تراجعت شعبيته كما أن عمره الذي يناهز 65 عاماً يحتم عليه التنحي عن قيادة الحزب وفتح المجال أمام قيادات جديدة للبروز أما الكاميرات. كما أن النتائج الهزيلة التي حصل عليها سيرغي ميرونوف مقارنة بنتائج حزبه الجيدة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة تظهر أن افتقاده "الكاريزما" سوف تجبره على التنحي عن قيادة حزبه، أو تشكيل ائتلاف جديد مع الشيوعيين أو غيرهم. أدرك بوتين سابقاً أن الانتخابات الحالية تختلف عن سابقاتها نوعياً، وإثر الهزيمة الكبيرة لحزب "روسيا الموحدة" نأى بوتين في شكل أو آخر عن الحزب، واتبع سياسة فريدة في حملته الانتخابية، مستغلاً وقته بالتنقل كرئيس للوزراء في مدن ومقاطعات روسيا، كما اتبع سياسة العصا والجزرة في آن واحد مع المعارضة في الشارع، ونشر سلسلة مقالات تركز على أسس سياسته المستقبلية تضمن بعضها برامج واضحة، وبعضها الآخر خطوطاً عريضة على الرغم من طول المقالات نسبياً. وبالعودة إلى مقالات بوتين نجد أنه ركز على فكرة مهمة وهو أن فترتي رئاسته الأولى والثانية كُرستا من أجل تأمين استقرار البلاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وحتى الكياني عقب حقبة التسعينات المظلمة، وفيه إقرار ضمني بأخطاء الفترة السابقة، واستعداد لتبني إصلاحات جذرية بعد أن تم تهيئة المناخ المناسب لها.وفي هذا الإطار فإن بوتين يؤكد على أن مهمته في الفترة الرئاسية الثالثة تنحصر في البناء على ما تم انجازه للانتقال بروسيا إلى مرحلة جديدة.اللافت للنظر أن الحراك الحالي في روسيا تقوده شريحة الطبقة الوسطى التي نمت وتنفست الصعداء في حكم بوتين منذ بداية القرن الحالي، وتتركز في المدن الكبرى، فيما الأرياف والمدن الصغرى تدعم بوتين في شكل كبير خصوصا بعد التهميش والاستبعاد الذي عاشته في سنوات التسعينات العاصفة مع تراجع الخدمات، وتآكل البنية التحتية وإغلاق المصانع وغيرها من الآفات. ويبدو أن العائد إلى الكرملين مازال قادراً على الاحتفاظ بلقب "زعيم الأمة". ويمكن أن يضيف إليه لقباً جديدا سوف يحدده المستقبل لاحقاً، لكن الأمر رهن بقدرته على توفير الظروف السياسية لولادة مجتمع مدني وأحزاب حقيقية تختلف عن تلك التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والتي غالبا ما انحصر دورها في تأمين الفوز للنخب الحاكمة عبر توليفة غريبة تجمع رجال أعمال وموظفين كبار ومستفيدين من الحكم. ومما يساعد بوتين على ذلك هو أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية باتت مواتية للتغيير، فروسيا تجاوزت الانهيار، وتظهر بوادر ميلاد مجتمع مدني جديد يطمح إلى الديمقراطية والتغيير، ويحتاج الى إطار يختلف جوهرياً عن الاتحاد السوفيتي الذي منح ضمانات اجتماعية واسعة وتغاضى عن المطالب السياسية. وأخيراً فإن "القيصر" قادر على قيادة انتقال روسيا إلى "ربيعها" عبر التعاون مع القوى الصاعدة، ولكن ربما سيجد نفسه مضطراً إلى إجراء تغيرات جذرية قد تطال أقرب المقربين وتبعدهم، وتقرب أطرافاً لا تتفق بالمطلق مع أفكار بوتين ومخططاته لبناء روسيا المستقبل.