عاد الحدث المقدسي ليتصدّر الاهتمام والاعلام من جديد، وظهر الأقصى في قلب الحدث الفلسطيني بعد غياب جزئي عن الصّورة لمدة طويلة، حيث استنزف الجهد الفلسطيني في قضايا ليس لها علاقة بالهمّ الرّئيسي المتعلّق بالأرض والمقدّسات والتّحرّر من الاحتلال. وظنّ بعض أقطاب الدّولة العبريّة والحركة الصّهيونيّة العالميّة والمتطرّفين اليمينيين والحركات المتطرّفة العنصريّة في الغرب، أنّ الفرصة مواتية لإحكام القبضة على مصير الفلسطينيين والإجهاز على ما تبقّى لهم من حقوق ومكتسبات، حيث رأى هؤلاء أنّ الاعلام والسّاسة مهتمّون فقط بما يحدث في العالم العربي من ثورات، وأنّ المنطقة تسير في مرحلة انتقاليّة ينعدم فيها القرار الحاسم، فيما يخص القضايا المصيريّة، مثل القضيّة الفلسطينية وفي قلبها ثاني أقدس المقدّسات للمسلمين، القدس الشّريف ودرّتها المسجد الأقصى، ولذلك نلحظ تصعيداً لغوياً وسياسياً وميدانياً لتصفية وهضم وهدم ونزع الحقوق الفلسطينيّة بشكل متسارع ومتوازي. هذا الاستخفاف الصّهيوني الّذي يرى أنّه لن يجد أيّ معارضة ومقاومة لما يقوم به من جرائم، ووجه بما لم يكن بحسبان أحد، فقد أظهرت الأحداث التي جرت في الأقصى وحوله وفي أزهر مصر، أنّ الرياح بدأت تجري في غير ما يرغب العنصريون، فبالتّزامن مع اشتداد العدوان على الأقصى ثار الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة بطريقة مفاجئة للكثير من المراقبين، فقد كان يظن البعض أنّ إغراق الفلسطينيين في الرّكض خلف لقمة الخبز، والقروض البنكيّة، وإدامة صراعاتهم الدّاخليّة، وتضييق سبل العيش عليهم سيلهيهم عن التّفكير بما يجري من استهداف لقضيّتهم وأرضهم وقدسهم . وبالرّغم من تغييب الشّيخ رائد صلاح في بريطانيا بمؤامرة بريطانيّة - إسرائيليّة، إلا أنّ المؤسسات الحركيّة الاسلامية من فلسطينيي الدّاخل بقيادة الشيخ كمال الخطيب وإخوانه كانت في الميدان وفي قلب الأقصى، فالشّيخ صلاح ذو رمزيّة كبيرة فيما يخصّ الدّفاع عن القدس والأقصى، ومن الملاحظ أنّه ممنوع من الكلام مع الاعلام وفي التّجمّعات في بريطانيا، فوق احتجازه هناك، وهذا يترافق مع هجمة شرسة تتمّ بحق الأقصى والمقدّسات، ولكن بيّنت هذه الأحداث أنّ العمل من أجل الأقصى تجاوز مرحلة التّمحور حول الشّخوص إلى العمل الجماعي و المأسسة، وهذه ظاهرة إيجابية جدّاً من المهم تطويرها والبناء عليها في كل ما يتعلّق بالحالة الفلسطينيّة فضلاً عن معركة الفلسطينيين مع الاحتلال. أظهر المقدسيون لحمةّ واستماتةً رائعة في الدّفاع عن المسجد الأقصى وقبة الصّخرة، وظهرت أخوات خولة بنت الأزور الفلسطينيّات في صورة رائعة وهنّ يذدن عن المقدّسات، وثارت الأحياء وحارات القدس القديمة ورأس العامود وغيرها، واشتعلت القدس غضباً من أجل الأقصى، فهذه أمّة تثور دفاعاً عن مقدّساتها، حتّى ولو تأخّرت هذه الثّورة، ولمن يتجرّأون على مقدّسات المسلمين عبرة بما يجري في أفعانستان. في المناطق المحيطة بالقدس خارج الجدار اشتعلت المواجهات في الرّام وقلنديا والضّاحية وفي الخليل وفي النّبي صالح وخان يونس وقرى ومناطق فلسطينيّة مختلفة، وتوّج الغضب الفلسطيني من أجل القدس باستشهاد أحد الشّبّان الفلسطينيين الّذي لبّى نداء القدس والأقصى، فالشّهادة وحجم ونوع الإصابات يعكس شدّة الاشتباكات مع جنود الاحتلال غضباً للأقصى. ظاهرة جميلة تلك التي أشرف على تنفيذها نخبة من الفلسطينيين في المسجد الأقصى، وهي ظاهرة المرابطين في المسجد يوميّاً، بل يتمّ جلب المرابطين عبر ما يعرف بمسيرة البيارق من أقصى شمال فلسطين إلى نقبها، وهؤلاء يحيون أسواق القدس وساحاتها بعد مساجدها، ولهم أبلغ الفضل – والعائلات المقدسيّة- في الدّفاع عن المسجد الأقصى في وجه من يعملون على تدنيسه يوميّاً. ما جرى في ساحات وأكناف المسجد الأقصى أظهر عودة روح المبادرة لدى الجمهور الفلسطيني، وبيّن أنّ الجمهور اقتنع بشكل حاسم بأنّ الدّفاع عن الأقصى ليس بحاجة إلى تعقيدات وترتيبات سياسيّة وتنظيميّة، وأنّ أي فرد أو مجموعة أو عائلة بمقدورها المبادرة للدّفاع عن حقوقها في القدس ومحيطها، وإن كان لنا أن نقدّر ما جرى فهو عبارة عن بداية لربيع فلسطيني لا يخضع لحسابات سياسيّة وتنظيميّة، وانّ أهمّ إشارة أرسلها هذا الحدث للاحتلال والعالم بأنّ القدس ليست يتيمة وأنّ للأقصى رجال.