تواجه تركيا تحديات هائلة في سياساتها المتنقلة بين تصفير المشكلات وتصفير السياسات. فقبل ثمانية أعوام فقط لم يكن أحد يتوقع أن يتحول المحيط الجغرافي لتركيا من محيط عدائي إلى محيط صداقة وتصفير عالٍ جداً للمشكلات التي طبعت علاقات تركيا بجيرانها المباشرين على الأقل. غير أن تطورات لاحقة أفضت إلى تحولات في سياسة تركيا الخارجية، منها الضغوط الغربية على أنقرة بعد حادثة أسطول الحرية التي كانت بداية لانحياز تركي أكبر في اتجاه الغرب، ومنها الثورات العربية التي أربكت السياسات التركية تجاه بعض الدول العربية وخرّبت علاقاتها مع البعض الآخر. لكن العديد من الكتّاب الأتراك يرسمون صورة أكثر اتساعاً لمروحة العداء المستجدة تجاه تركيا. وتأتي محاولات "إسرائيل" لتشديد الخناق على تركيا في طليعة هذه الضغوط، وإليها تنضم اليونان وقبرص اليونانية ورومانيا وبلغاريا، والاتفاقيات المعقودة بين هذه الدول بمسميات اقتصادية وعسكرية واستخباراتيه. وإذا أضيفت روسيا وأرمينيا وإيران والعراق وسوريا، بل حتى لبنان إلى هذه المروحة يكون الطوق الجغرافي المباشر قد اكتمل حول تركيا. لكن هذا الطوق يمكن أن يكون أيضاً أكثر اتساعاً في حال جلنا بالنظر إلى دول وقوى أبعد من الدائرة الجغرافية التركية المباشرة. من هذه الدول على سبيل المثال، فرنسا التي تدخل علاقاتها مع تركيا دائرة التوتر. وإذا كانت مسألة العضوية التركية في أوروبا من أهم أسباب الخلاف بين تركيا وفرنسا وإلى هذا السبب يمكن ضم العلاقات التركية مع ألمانيا مثلاً، فإن للمواقف الفرنسية تجاه المسألة الأرمنية واعتبار "الإبادة" الأرمنية عام 1915 على يد الأتراك جريمة يعاقب من ينكرها، دوراً في تضييق الخناق على تركيا بحيث يمكن المقارنة بين وضع تركيا الحالي مع وضعها خلال التسعينيات، لجهة أنها كانت محاطة بالأعداء القريبين والبعيدين. لا يمكن، والحالة هذه، أن نضع اللوم على كل هذه الدول المتناقضة فيما بينها ونبرئ حكومة حزب العدالة والتنمية من هذا الوضع المؤذي لتركيا، خصوصاً في مرحلة تطلعها لتكون قوة إقليمية مؤثرة، بل قوة تلامس المعايير العالمية. إن اعتبار التوجهات الحالية لحكومة حزب العدالة والتنمية مشابهة لتوجهات الحكومات العلمانية المتشددة والعسكرية السابقة أمر يجب التوقف عنده ودراسته. فما كانت تمارسه الوصاية العسكرية في الداخل ضد الإسلاميين يمارسه الآن "إسلاميو النظام" تجاه خصومهم، في حين كان الجميع ينتظرون نهجاً مغايراً. وعلى الصعيد الخارجي، كان تراجع المسؤولين الأتراك عن سياسات المسافة الواحدة واتخاذ موقع الطرف في الصراعات الداخلية داخل كل دولة كما بين الدول، كان من أكبر الأخطاء في منطقة عربية وإسلامية ومسيحية لا تتحمل سياسة إلغاء الآخر وتتميز بحساسياتها التي تتعدى مبادئ الحق والعدالة، بل تستثير التاريخ وتنبشه في أسوأ نماذجه وتجاربه وصوره. لا تزال تركيا في موقع القادر على العودة إلى التوازن في سياساتها الخارجية لأنها ستكون مفيدة لها ولجوارها. ولكن كيف؟.