حتى اليوم، لا تزال الحقبة العثمانية، وكل آثارها النفسية والاجتماعية، تشكل ركيزة أساسية من ركائز الذاكرة العربية، حتى في وجهها السلبيّ، المتمثل بإلقاء اللّوم، كل اللّوم، في تخلّف العنصر العربي على الأتراك، الا أن وجهاً مغايراً للحقبة العثمانية لا يزال حاضراً أيضاً، في شكله الإيجابي واللا مباشر في تلك الذاكرة الجمعيّة، هو ذو طابع نوستالجي واجتماعي، حيث الحنين الخفيّ الى العزّ والأبّهة الاجتماعيّين اللذين كانت تعيش فيهما فئات غير قليلة من العرب عبر العلاقات الطبقيّة أو المهنيّة، أو القرابيّة حتى، حيث يكثر التغنّي بماضٍ حافل بالرّفعة الاجتماعية والمقامات والجذور والأصول والامتيازات والمصاهرات والأنساب. في وقت لا ينكر فيه التاريخ إقرار كثير من المثقفين العرب المشرقيين، من معاصري تلك الفترة، بوجود «الوطن العثماني» و «الهوية والمواطنية العثمانية»، التي استمر تركيزهم عليها وتمجيدهم لها الى الفترة التي ظهر فيها أبو الأتراك، مصطفى كمال، الذي حظي بشعبية وحماسة لدى المشرقيين. فهو العسكري المنبثق من «وطنهم» العثماني، كان يتحدى فساد مؤسسة السلطنة، ساعياً الى الإصلاح والتحديث، ومحاولاً بناء تقليد أممي ودولتيّ جديد قائم على العلمانيّة. وانعكس هذا الأمر اجتماعياً على المناخ العاطفي العربي، ولا تخفيه ظاهرة الأسماء، التي يعبر تبدلها وتغيرها عن وعي ومرحلة جديدين حيث راج إطلاق اسم «كمال» على كثير من المواليد الجدد وقتها، حتى ولو كانوا من الإناث، كما حدث مع عمّة الروائي اللبناني أمين معلوف كما راجت بعض أسماء الإصلاحيين الأتراك، أنور وطلعت وغيرهم (اياس حسن). والحال، أن هذه الخاصية – المفتاح، أو الاشتراك في الانتماء الديني، يتعاظم تأثيرها في الوجدان والأحاسيس العربية التي تتلقفها سريعاً، بأشكال واضحة ومباشرة. فتركيا دخلت باب الأممية الاسلامية من أوسعه، اذ يترأس «أحد أبرز المتنورين الأتراك» الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وهي كانت الدولة الأولى التي استقبلت حركة حماس الفلسطينيّة ذات التوجه الإسلامي اثر فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، والدولة التي حُملت في شوارعها صُور حسن نصرالله أمين عام حزب الله اللبناني إبان حرب تموز في السنة ذاتها، إضافة الى امتناعها قبل ذلك، عن الانخراط في الحرب الأميركية على العراق في 2003. وهو ما يبقى، في مجمله، ضمن إطار السياسة الخارجية. ومن جهة أخرى، كانت المجتمعات العربية، التي تعيش حالة نموذجية من المُشاهدة والتلقّي، تصلها حركة المجتمع والسياسة الداخلية في تركيا: اكتساح حزب العدالة والتنمية لحوالى ثلث مقاعد البرلمان في 2002، وردّه محللون أتراك الى «رغبة الناخب التركي في تأكيد الهوية الإسلامية» لتركيا. وتفاعلات قضية الحجاب في الداخل التركي، الذي «حافظت الأتاتوركية دائماً على محاصرته»، ومحاولة حكومة أردوغان تعديل القوانين التي تمنعه في الجامعات والمؤسسات الرسمية على رغم ملاحظة انتشاره في الشارع التركي، ما جعل كثرته «تنم عن مأزق الكوزموبوليتيّة» (حازم صاغيّة)، أي التوجه نحو مزيد من أسلمة المظهر العام وظهور ما هو أقرب الى «خط عربي» أو إسلامي ضمن وزارة الخارجية، إذ ترافق الانفتاح التركي على دول الجوار العربية مع دخول علاقة تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل في حالة تدهور تدريجي وصولاً الى مناخات من عدم الثقة وقلّة اللياقة. وهو ما ساعد في إيصال تركيا الى صُلب الأحاسيس والمشاعر العربية. واحتاج دخول تركيا الى المنطقة، لا سيما الى الوجدان العربي، الى مشاعر وسياسات قومية عربية باردة، لأن «أهم خطر يهدد سياسة تركيا في المنطقة هو تعاظم التيار القومي، وان خلفية عزلة تركيا في الخمسينات والستينات هي نمو القومية العربية وتعاظمها في تلك الفترة». وهناك حاجة الى الإفادة من كل ما يدعّم هذا البرود العروبي، كإعادة النظر في طبيعة العلاقة التركية مع إسرائيل، ف «تطور مرحلة العلاقات مع اسرائيل بشكل سريع، بحيث أصبحت تأخذ طابعاً استراتيجياً، أمر ساعد على تحرك القومية العربية»، كما يرى أحمد داوود أوغلو، رائد تحديث النيو عثمانية في السياسة التركية ووزير خارجيتها الحالي، في مقال له في جريدة النهار عام 2004. والراهن، أن كلاً من العرب والأتراك، احتاج الى تغييرات وتعديلات هامة في تشكيلات الهوية، وهو أمر أدّى الى اعادة النظر في الأيديولوجيات والأفكار التي تحكّمت في هويات الشرق الأوسط، وأحكمت الخناق عليها. ومن ثمّ، التخليّ الشعبي والجماهيري، الحسّي والانفعالي عن هذه الأيديولوجيات. فالعرب يودّعون عروبتهم الكلاسيكيّة الحُلميّة، والأتراك ينزعون القدسيّة عن الأفكار الكماليّة في تطبيقاتها المبالغة في التشدد والإمساك على حركة المجتمع وخيار التغربُن. ولو صدق هذا التحليل، فنحن أمام مرحلة انفراج وأمل نسبيّين، وهو أمر سيفاجئ الأكثرية المتشائمة من مثقفي المشرق. فتخفيف الأتراك من تحكّم الأيديولوجيا في توجيهها لهويتهم الوطنية ومسار وشكل الدولة والمجتمع، أدى الى تعديل في توجيه دولتهم وحركتها وعلاقاتها الخارجية، ما أدى الى اكتشاف محيط جغرافي غنيّ وواعد بمصالح اقتصادية واستراتيجية قلّ مثيلها. وهو ما ضاعف من تقديرها ذاتَها وثقتها بنفسها. وفي المقابل، يمكننا أن نرى في تطلع العرب الى المثال التركي، هروباً الى خيار جديد ومختلف عن حالة الهيمنة الأصوليّة والمتخلّفة، المتمثّلة بضعف النظام الرسمي العربي وسعي إيران الحميم الى التأثير والتحكم في المنطقة سياسياً واجتماعياً. ويمكن أن نرى أيضاً في هذا التطلع رغبة لا شعوريّة في التغيير والتحول الى بناء دول – أمم عربية، مكتملة البنيان وناضجة الكيان، على شاكلة تركيا. وخلاصة القول، إن الهدف من البحث في ملابسات الهويات العربية والتركية حالياً، هو محاولة لتحليل جزء من واقع عربي سياسي وثقافي واجتماعي، عقيم ومغلق، تولد فيه أجيال جديدة لا تجد من حولها عناصر قويّة كافية لترتكز اليها في عملية ارتقائها من هوياتها الأوّلية والفطرية، الى هويّات أكثر تجميعاً، وأكثر تحديثاً، وأكثر ضمانة للمستقبل. * صحافي سوري.