الرسم شعر صامت، والشعر رسم متكلم , «بلوتارخ» ثمّة تجربة غائرة شرّعت الأبواب أمامنا حيثُ تجوهرت المعاني وائتلفت الألفاظ وحيثُ وثبة عبقرية تشدُّ حِبال التناغم بين الصورة والموسيقى في كل بيت وبأبعاد من الطراز النادر لتلتحم , مُكونة لوحة أدبية لا تجرؤ على النقصان . [ طفلة النايات ] عنوان قصيدة خالد عوض العمري ترسيمة لملامح الاستحالة والانسجام والدرع المحصّن للخيال والتوليف المقنن بجميع جزيئاتها إنه العطاء الذي فتح كل أطناب وأعمدة الكتابة لبحور مافوق الشَّعر والتي لاتفارق العقل والروح إلا وقد أشبعته . إنه الالتحام العقلي والروحي لكل مفردة ومشهد والإثارة لكل وزن وقافية حتى أنها تفرض خصوصية منهجها على الناقد . إن القارئ لهذه القصيدة من الوهلة الأولى يظن أنها الصعود إليها مباراة بسيطة لكنه يكتشف ومع أولى خطواته أنه يقف على أسطورة عريضة وأدبية ذات جذور متأصلة بعمقها غنية بألفاظها بحوافها غزيرة بدلالاتها. وليست [ طفلة النايات ] القصيدة المحملة بالغذاء, بل كل موائد الشعر لديه تمد كفوفها بالدفء والبرد الريح والسحاب , الغيث واليباب والنأي والقرب . أوكما يقول المتنبي : للشمس فيه وللرياح وللسحاب وللبحار وللأسود شمائل خذني إليك فما في العمر أغنيةٌ إلاّك تستمطر الأقدار لي فرحاً خذني إليك فما في العيش بارقةٌ تغري الليالي خلا عينيك مصطبحا خذني إليك فما في الحلم متسعٌ يكفي غناي إذا لجّ الهوى وصحا خيوط مسرجة تتسع حدقتها مع مطلع القصيدة وصوت حنين يتكرريستهل بصيصه بوشوشة [ خذني إليكَ ..] حيث بؤرة الطمأنينة وضيق حدقة الحلم في آن واحد , وحيث مؤشر القارب يقود القارئ لدراما غير مألوفة بعيداً عن الرمزية الموحشة والكنايات الغامضة, إنها بوصلة الشّعر لايجيدها إلا عباقرة هذا الفن . بي زرقة البحر لكن خان موعدنا شطٌ من الأرض لم نعلي له قدحا بي ألف تشرين والأنواء تعصف بي لكن نصل خريفي لم يعد وقحا الصورة المثيرة إن كانت معتمة مؤصدة تسمح للتسلل بداخلها في عمقها شئنا أم أبينا تدغدغ المسامع وتفعمها بأفواج الدهشة [ زرقة البحر , الأنواء , الأرض ,ألف تشرين...] إنها العبقرية الشعرية أن تضع القارئ أمام لوحة شعرية وتتركها تغني معه طويلا , فلا يوجد معنى خالٍ من الهواء ولا توجد أرض بِلا ماء . بل غمرت القصيدة تأرجحات وتساؤلات : كيف يُزجي بحور الشِّعر ثم يؤلف بينهما ليُقرأ الضوء منه؟!! للبعض صحوي ولي أمطار أخيلتي للبعض قربي ولي بعضي اللذي نزحا للبعض مني حضورٌ لست أعرفه ولي غيابي الذي يكسو المدى بلحا إن صوت فيروز لم تكسرك فتنته فانظر لنفسك مابين الضلوع رحى على أن المرارة وإن هيمنت على القصيدة فقد أنجبت بوتقة حاضنة للروعة إنها الأسطورة الدائرية والتي تجلت في أبهى لوحة تتسابق إليها الأبصار جيئة ورواحاإنها الذائقة الشعرية المميزة للشاعر والتي أسرت الخيال واستمدت فخامتها من أصالة البوح وسمحت بالعبور إلى عذوبتها والاحتفاء بجمالها, قراءة لهذه القصيدة بأدواتها وتصوراتها بحاجة ل ألف تشرين للاحتفاء بجمالها. عَبير بِنْت أحْمد