قبل التوقيع على برتوكول المراقبين، شنّت المعارضة السورية وأطراف عربية وإقليمية ودولية، هجوماً عنيفاً على نظام دمشق، لرفضه وتسويفه ومماطلته باستقبال بعثة المراقبين العرب، وكانوا في ذلك محقين تماماً...اليوم، وبعد أن وطأت أقدام المراقبين الأراضي السورية، تحوّلت سهام النقد والهجوم إلى “المراقبين” أنفسهم، والجامعة التي أرسلتهم، والأمين العام الذي بدأنا نسمع بأنه ليس له من اسمه نصيب، فلا هو نبيل ولا هو عربي ؟! الحكاية بدأت في الجامعة، عندما عادت بعض الدول العربية عن مواقف سابقة، ونأت بنفسها عن بعض المواقف الأكثر استعجالاً للتغيير في سوريا. إلى أن جئنا إلى المراقبين العرب، بروتوكولاً وتشكيلاً ورئيساً، وأحسب أن اختيار اللواء الدابي، السوداني الجنسية، قد تم تقديراً للموقف السوداني الرسمي، الذي انتقل من تأييد النظام السوري بقوة إلى معارضته بشدة...لكن ما أن وطأت أقدام الدابي أرض حمص المنكوبة، حتى انهالت عليه سهام النقد والتجريح، وأخذ “القوم” يتذكرون أن الرجل متورط في جرائم ضد الإنسانية في دارفور، وأن المسافة التي تفصله لاهاي، حيث محكمة جرائم الحرب، ليست سوى خطوات قلائل؟!. أبعد من ذلك، فإن “متحمسي الأمس” لبعثة المراقبين العرب، هم أنفسهم الأشد حماسة اليوم لسحب هذه البعثة، وإنهاء تفويضها، والطعن في نزاهة رئيسها وطواقمها، والسبب في ذلك، يكمن في الخشية من أن لا تخدم تقارير البعثة الغرض “المُعدّ سلفاً” لها، ألا وهو استجلاب التدخل العسكري الدولي على عجل، إو استحضار “السيناريو الليبي” بالتمام والكمال. والحقيقة أن المعارضة السورية ذاتها، تبدو اليوم منقسمةً حول الموقف من بعثة المراقبين العرب...فهناك من يعتقد أن وجود طواقهما مفيد، أقله لجهة تمكين الشعب السوري من معاودة أشكال انتفاضته السلمية، والتخفف من أعباء “العسكرة” وتداعياتها...فيما يرى بعضهم الآخر، أن استمرار عمل هذه البعثة قد لا يساعد في البرهنة على صحة “رواية المعارضة السورية للأحداث” ودفع المجتمع الدولي لأن يبنيّ على الشيء مقتضاه. والمؤسف حقاً، أن العرب من كلا المعسكرين، أو الاتجاهين اللذين تبلورا في اجتماعات الجامعة العربية، مقصرون تماماً بحق سوريا وبحق “قرارات الإجماع العربي” ذاتها... فبعد قرابة الأسابيع الثلاثة منذ توقيع بروتوكول لم يصل إلى سوريا سوى أقل من مائة مراقب، في الوقت الذي كان يتعين فيه، أن يصل هذا العدد إلى خمسمائة مراقب...العرب الرافضون للتدويل، وغير المتساوقين مع التدخل العسكري، يحجمون عن الإسهام في البعثة، خشية أن تفضي نتائج أعمالها إلى ما يتعاكس مع مواقفهم واتجاهاتهم...والعرب المتحمسون للتدخل والتدويل، لم يكن أمر البعثة يثير قلقهم كثيراً، فقد كانوا يتطلعون للحصول على شهادة “تجريم” للنظام، حتى وإن مُهرت بتواقيع قلة قليلة من المراقبين العرب...لذلك جاءت إسهامات الجميع متواضعة، وأحياناً لدرجة الصفر. مع أن وجود مئات المراقبين على الأرض السورية الشاسعة، وفي كافة بؤر التوتر وخطوط التماس، وبصورة شبه مقيمة، وبالتزامن على كل البؤر وخطوط التماس، كان من شأنه تسهيل مهمة المراقبين، وتوفير الحماية للمدنيين، وتمكين الشعب السوري من التعبير عن موقفه بحرية وسلمية تامتين، وعندها كان يمكن للعالم أن يفهم حقيقة ما يجري على الأرض السورية، بعيداً عن البروباغندا والبروباغندا المضادة. ومما زاد الطين بلة، أن هؤلاء المراقبين يذهبون إلى سوريا، بأقل التجهيزات التقنية واللوجستية، حتى أنهم يشكون من نقص فادح في وسائل النقل والمواصلات...وهذا شاهد إضافي على عدم جدية “المجتمع العربي”، على غرار المجتمع الدولي، في إنجاز هذه المهمة، بالغة الحيوية للشعب السوري وكفاحه العادل والمشروع من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية. كان ينبغي على جميع الدول العربية، ولغايات حفظ التوازن والاتزان، أن تسهم بكثافة في بعثة المراقبين العرب، وأن تخصص لها كل ما تحتاج من أدوات ووسائل وإمكانيات، لتمكين الفريق العربي من إنجاز مهمته على أكمل وجه...كان يتعين حفظ مهمة هؤلاء بعيداً عن السياسة والتسييس، وتمكينهم من إنجاز “التفويض” الذي جاءوا به ومن أجله، من دون ضغط أو إكراه، لكن للأسف، فإن هؤلاء المراقبين، يعملون اليوم في مناخات من الابتزاز والعرقلة والتخويف والتشهير والتضليل. نحن ندرك أتم الإدراك، أن النظام ما كان ليدّخر جهداً في سبيل “حرف الفريق العربي عن أهدافه وتفويضه”...ونحن على قناعة تامة بأن ماكينة النظام، السياسية والإعلامية والحزبية والأمنية، تحركت بكامل طاقتها لضمان أن “تُضمّن” تقرير البعثة، فصولاً من روايته الرسمية...لكن الطريقة التي تدار بها “معركة الرقابة والمراقبين” لا تساعد بكشف ألاعيب النظام وخدعه، بل تمده بالمزيد من المبررات للطعن في صدقية خصومه المحليين والعرب والإقليميين والدوليين، وما أكثرهم. سيستمع وزراء الخارجية العرب لأول تقرير من الدابي حول نتائج أعمال الأسبوع الأول لبعثة فريقه...والأرجح أن كل طرف عربي سيبحث في التقرير عمّا يخدم روايته واهدافه.