تواجه المرأة المطلقة في مجتمعاتنا تجارب قاسية، ومحنا أشد من محنة طلاقها، فأطماع الرجال حولها ترشقها بسهامها، والعيون ترميها بنظرات تهزمها بلومها، تشعرها بعارها وذلها ومهانتها، والألسنة تقذفها بشرارها، فتصليها عباراتها بكلمات كرصاص البنادق تخترق قلبها، فتوقعها صريعة تلفظ آخر أنفاسها، وآخر ما تبقى من كرامتها، وحريتها، وجمالها، وإحساسها بإنسانيتها. فهي لم تكن تعتقد بأن طلاقها أعظم من خسارة رجل، كانت تحلم بأن تعيش معه حياة زوجية سعيدة، وأنها ارتكبت جريمة تعاقب عليها محكمة المجتمع، وعليها أن تتطهر منها ما تبقى لها من سنوات عمرها، وتضمد جراحها فلا تفتر تنزف حتى تنزح عروقها من دمائها، كما تنزح البئر من مائها، وتلملم أوراق ذكرياتها، فلا تستريح نفسها من زفراتها وأوجاعها وأحزانها . فهناك من حكم عليها بأن تعيش النهاية وتشهد غروبها، أياما تداولها كئيبة، تراودها الخواطر كأنها كوابيس أحلام مزعجة، تصيبها بالقلق والاكتئاب النفسي، فتفقد نشاطها وحيويتها وطاقتها، وتفقد ملامحها نضارتها، وتصير شاحبة كشحوب أوراق الخريف قبل أوان الخريف، تتوهم أن دورة حياتها انقضت أيامها وساعاتها، فتظل تلهث بين آمالها وآلامها، تصارع لكي تعيش فلا تنسل روحها من ضعفها . فماذا تقول لمحكمة أدانتها، وألقت بها في زنزانة المجتمع لتقاسي أبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي لأنها مطلقة ؟ ماذا تقول ولا تملك في جعبتها أجوبة براءتها، فتظل حبيسة على أطراف لسانها تمتمات خرساء من عجزها ؟ ماذا تقول والأصوات تعلو صرخات بداخلها، تثور على ظلمها وجورها لحقوقها؟ ماذا تقول وفي كل يوم تفقد من ذاتها، ونفسها، ودمها، وروحها، وجسمها، وهويتها، وتاريخها، وآمالها وأحلامها...؟ إنها لا تملك إلا أن تعيش معاناتها بمفردها، ولأنها المرأة عليها أن لا تشتكي من حياتها، ولأنها الزوجة عليها أن تتحمل كل أخطاء زوجها وسلبياته، وكل سقطاته وزلاته، وكل تقصيره وجفائه وقسوته، وكل ما تكرهه من عاداته وطباعه، وكل ما يؤذيها من قهره وظلمه لحقوقها، ولأنها الأم المربية عليها واجب التربية والرعاية لأطفالها، والتضحية لأجلهم براحتها وسعادتها، ولأنها السكن عليها أن تهب لبيتها الدفء والحنان والمودة والرحمة .. وحتى وإن حرمت من كل ذلك من زوجها، أو تعبت أو انهارت أو استسلمت لضعفها وانكسارها، عليها أن تصبر وتكافح وتستمر حتى النهاية . إنها بكل حالاتها ليس من حقها أن تتخلى عن واجبها ومسؤوليتها، أو تمل من صبرها وكفاحها، وتطلب الطلاق، أو تكون سببا من أسبابه، وإلا سيتهمها أهلها وأسرتها والناس بأنها ظالمة لزوجها، وبأنها إنسانة سلبية، لا تتحمل مسؤولية الزواج وأعبائه وتبعاته، أو هي لا تدرك معانيه ومقاصده، أو لا تحسن تدبير شؤون بيتها، وإدارة أسرتها وإسعاد زوجها .. وتكثر حولها الإشاعات التي في أغلبها لا تتعدى أن تكون احتمالات وتأويلات تخالف الحقيقة، تسعى لتفرض الوصاية على تصرفاتها، أو ندينها ونتهمها في أخلاقها، وشرفها، ودينها، لمجرد أنها أخطأت أو فشلت في زواجها . مع أن الفشل في الزواج ووقوع الطلاق ليس قرارا صادرا عن فرد واحد، إنما عن شريكين يتحملان معا مسؤولية فشلهما بحياتهما الزوجية، كما يتحملان أسباب انهيار علاقتهما معا . وبكل الحالات فالمرأة المطلقة تظل واحدة منا، هي من بناتنا وأخواتنا وأهلنا، فواجب علينا أن نحميها، ونراعي ظروفها، ونبرر أخطائها، وعلينا أن نرشدها ونوجهها ونهديها إلى الطريق المستقيم، ونمنحها الأمل لتبدأ حياة جديدة، بأحلامها وطموحاتها وأهدافها، وتعمل على تحقيق رسالتها فتكون عنصرا فعالا تساهم في تنمية مجتمعها . وواجب علينا كذلك أن نشعرها بأنها ليست وحدها، وليست غريبة في أهلها ووطنها ومجتمعها، إنما كلنا بجانبها وحولها، نخدمها ونساندها وندافع عن حقوقها، ونشد أزرها، ونساعدها حتى تتجاوز محنتها، لأننا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولأن من قيمنا الإسلامية أن نتحد وننصر بعضنا في السراء والضراء، ونوفر مصالح بعضنا، مصداقا لقول الحق سبحانه: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148]، وقوله سبحانه: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (المائدة: 2). والمرأة المطلقة تحتاج كذلك من كل فرد من أفراد أسرتها وأبناء مجتمعها إلى الرحمة والشفقة مهما أخطأت أو حادت عن جادة الطريق، تلك الرحمة التي أوصانا بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله"، وقال صلى الله عليه وسلم رحمة بالنساء لغلام يحدو بهن يقال له أنجشة: "رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير"، قال قتادة : يعني ضعفة النساء. وقبل أن نتهم المرأة المطلقة علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا قدمنا لها لنحميها وندافع عن حقوقها؟ وماذا قدمنا لها لتوعيتها وإرشادها؟ ولتكن غايتنا ليس الترويج للطلاق، فهو أبغض الحلال عند الله، ولكنه الحلال الذي أحله الله، والحل الذي وضعه الشارع للرجل وللمرأة حين تستحيل العشرة بينهما . وغايتنا تحسين صورة المطلقة داخل المجتمع، وصرف الإشاعات والظلم عنها، حتى تستطيع أن تحيا حياة كريمة . وغايتنا أن نتحمل مسؤولية تقصيرنا في مواجهة مشاكلنا، ونسعى لتصحيح ما نراه من أخطائنا وسلبياتنا بمجتمعاتنا، ونعمل على تغيير نظرتنا ومفاهيمنا الخاطئة، وعاداتنا وتقاليدنا وطباعنا السيئة التي لا أصل لها من شريعتنا، ونحاكم أنفسنا قبل أن نحاكم غيرنا، ونعتلي منصة القضاء ونصدر الأحكام من غير أدلة ولا شهود ولا دفاع . إن المرأة المطلقة ليست إلا حالة من حالات كثيرة، ما زالت على الرغم من تقدمنا تعاني منها المرأة داخل مجتمعاتنا، التي ما زالت تحمل مفاهيم خاطئة، وما زالت تقيم الحياة الإنسانية بعقل بشري لا بشمولية الإسلام وعدله، لهذا لا تقدر حاجات المرأة وضروراتها الإنسانية، ولا تعترف بكيانها وحريتها وكرامتها واستقلالها ولا بحقوقها التي كفلها الشارع لها . ولهذا نحتاج لنعيد فهمنا لنظرة الإسلام للمرأة ولمكانتها داخل المنظومة الاجتماعية، وكنواة داخل أسرتها، ولأدوارها ووظائفها، كما نحتاج لتصحيح نظرتنا للطلاق ولماذا أحله الله، حتى نقدر أن نعالج الكثير من قضايا المرأة ومشاكلها، لنؤهلها لتكون مربية الأجيال القادمة التي ستبني وتحقق الازدهار والتقدم لأمتنا.