توجه الرئيس محمود عباس إلى الأممالمتحدة للمطالبة باستقلال دولة فلسطين والحصول على العضوية الكاملة في المنظمة الدولية الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض، ونريد هنا الوقوف عند بعض أسباب المعارضين الذين اعترضوا على قضايا ليست هي لب المشكلة. في البداية لا بد من التأكيد على أن الكثير من الاعتراضات والتحفظات هي صحيحة ويجب طرحها، سواء كانت الاعتراض على نية عباس العودة لمفاوضاته العقيمة مع الاحتلال الصهيوني، أو غموض تحركات وتفاصيل ما سيقدم عليه عباس وسلطته وانفراد كهنوت ما يسمى بمؤسسة الرئاسة بقرارات تمس مصير الشعب الفلسطيني كله، أو المخاوف من الإقدام على تنازلات تضر القضية الفلسطينية، أو الاعتراض على جملة "نحن لا نسعى لنزع الشرعية عن إسرائيل". فكلها اعتراضات مشروعة وفي مكانها وفي وقتها. لكن ما يستوقفنا هو بعض المبررات التي تساق لرفض خطوة الذهاب إلى الأممالمتحدة، وأبرزها ما يقال عن أن قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967م يعني إلغاء حق العودة والتفريط بما تبقى من فلسطين، فمن الضروري التوضيح بأن مبدأ إعلان قيام دولة أو استعادة أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني ليس مرفوضاً بحد ذاته، وإنما ما هي التبعات والأثمان التي قد تدفع مقابل ذلك، لذا يجب معرفة طبيعة الأثمان والالتزامات المرافقة لذلك قبل أن نحكم عليها بالرفض أو القبول. مشكلة هذا الطرح أنه يصف المشكلة بشكل خاطئ، وأنه يمهد الطريق للسلطة من أجل الخضوع للضغوط الأمريكية والتنازل عن الدولة مقابل العودة للمفاوضات، وأنه يكبل الشعب الفلسطيني ويعقد الأمور بلا أي داعٍ أو مبرر. فالقول بأن قيام دولة فلسطينية على الضفة والقطاع يلغي حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة لأرضهم التي هجروا منها لأنه أصبح لديهم دولة، هو قول خاطئ ولا أساس له قانونياً أو منطقياً، فاللاجئون ليسوا مجموعة من المتسولين الباحثين عن جنسية أو جواز سفر حتى نرضيهم بجواز سفر "ضفاوي"، هم أصحاب حقوق وأملاك داخل فلسطينالمحتلة، وهي ستبقى أملاكهم وحقهم بغض النظر عن شكل الدولة الفلسطينية، سواء قامت الدولة أم لم تقم.فمن أساسيات أي قانون سماوي أو أرضي أن صاحب الملكية لا يفقدها بمجرد طرده أو هجرته (الطوعية أو القسرية)، وحتى الكيان الصهيوني نفسه يعترف بملكية اللاجئين لأراضيهم وممتلكاتهم ويضعها كلها تحت إدارة مؤسسة حكومية صهيوني تسمى "حارس أملاك الغائبين"، وحتى من يسكنها من الصهاينة لا يتملكها بل تبقى تحت تصرف حكومة الاحتلال. رفض عودة اللاجئين ليس مرتبطاً بإعلان الدولة الفلسطينية ولا يجب أن نربطه نحن ونقيد أنفسنا بهذا القيد الثقيل الذي لا يفيد إلا الصهاينة. لو راجعنا مواقف الصهاينة ومن يدعمهم فهنالك ثلاث مبررات تساق لرفض عودة اللاجئين: المبرر الأول هو أن عودة اللاجئين يضر بالأغلبية اليهودية داخل فلسطين، وهذا مبدأ عنصري قائم على نظريات النقاء العرقي والأصل أن يرفضه العالم جملة وتفصيلاً. المبرر الثاني هو أن اللاجئين هم نتيجة خسارة العرب لحربهم مع الكيان الصهيوني عام 1948م ويجب أن يتحملوا نتيجة خسارتهم، وهنا نقول لهم نحن لها بإذن الله ونستطيع أيضاً أن نلعب نفس اللعبة. والمبرر الثالث هو ما يقوله الصهاينة بأن مقابل اللاجئين الفلسطينيين هنالك اليهود القادمين من الدول العربية إلى الكيان الصهيوني والذين صودرت أملاكهم بعد هجرتهم للكيان، وأن هذه بتلك ويمكن توطينهم مكان اليهود الذين هاجروا من بعض الدول العربية. وهذه معادلة أخرى غير مقبولة فمن ناحية ترجعنا لنفس إسطوانة التطهير العرقي، ومن ناحية أخرى تساوي بين من هجروا قسراً وبين من هاجروا طوعاً، ومن ناحية ثالثة يوجد اختلال بالنسبة والتناسب: فعدد اللاجئين الفلسطينيين (داخل وخارج فلسطين) يتجاوز 7.5 مليون بينما اليهود الشرقيون لا يصل عددهم إلى ثلاثة ملايين. وبالتالي نرى أنه لا يوجد أي رابط بين قيام دولة فلسطينية والمبررات الثلاث، فأن نأتي ونتبرع للصهاينة بمبرر رابع ونقول أنه متى ما قامت الدولة الفلسطينية فسيسقط تلقائياً حق عودة اللاجئين فهذا قيد ثقيل لا لزوم له، فمشروع الدولة ليس مشروع عباس وحده، وإن لم يكن مستأمناً على هذه الخطوة فهذا لا يعني أن نرفض مبدأ قيام الدولة. ما المشكلة أن تكون لنا دولة ولنسمها فلسطين المحررة (أو فلسطين الحرة) حتى نؤكد على أن هنالك فلسطين محتلة يجب تحريرها؟ ألم يئن الأوان لنفكر بكيفية استرجاع فلسطين؟ ألا يحتاج ذلك للاستفادة من أي تراجع صهيوني على الأرض؟ صلاح الدين حرر القدس وأجزاء كبيرة من فلسطين وبلاد الشام لكنه وقع على صلح الرملة مع الصليبيين والتي منحتهم المنطقة الممتدة من مدينة يافا حتى مدينة صور، لم يقل أحد أنه تنازل عن حقنا في هذه المنطقة، ولم تتحرر هذه المنطقة إلا بعد أكثر من مئة عام على يد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون. أما أن نقول لنحافظ على الوضع القائم وليبقى كل لاجئ في مكانه إلى أن تأتي الجيوش الجرارة وتحرر فلسطين كل فلسطين فهذه أحلام يقظة لن توصلنا إلى أي مكان، فصراعنا مع الاحتلال الصهيوني معقد وطويل الأمد ويحتاج لأن نفتح كل الجبهات الممكنة مع الكيان لا أن نريحه ونبقي على الوضع الراهن بحجة أننا لا نريد خسارة ما تبقى لنا من حقوق.من الضروري أن ندرك ونحن نقارع المحتل الصهيوني أن استعادة أي جزء من الحقوق لا يعني التفريط بباقي الحقوق، حتى لو كان ذلك من خلال الأممالمتحدة، وليس صحيحاً أنه إذا قبلنا قراراً أممياً فيجب أن نقبل بكل شيء بما فيه حق الكيان الصهيوني بالوجود، وهنا نشير إلى أن الصهاينة اعترفوا بقرار التقسيم لكنهم أخذوا الجانب الذي يلائمهم وأكلوا الدولة الفلسطينية الواردة بقرار التقسيم، كما أن قرار الاممالمتحدة الذي أعترف بدولة إسرائيل اشترط تطبيق الكيان للقرار 194 والذي ينص على عودة اللاجئين، بمعنى أن قيام الكيان الصهيوني مرتبط بعودة اللاجئين حسب قرار الأممالمتحدة، لكن عملياً كل العالم اعترف بدولة الاحتلال، أما القرار 194 فلا يرفض الكيان تطبيقه فحسب بل يرفض مجرد نقاشه.فإن كان الصهاينة لا يلزمون أنفسهم إلا بما يلائمهم من قرارات دولية، وحتى نفس القرار يختارون ما يلائمهم ويرفضون ما لا يلائمهم، لماذا نلزم أنفسنا بها بعجرها وبجرها؟ سيقول البعض أن الكيان الصهيوني يقوم بذلك لأنه يستقوي وصاحب اليد العليا، إذاً الخلل ليس في المطالبة بحقوقنا من الأممالمتحدة (أو غير الأممالمتحدة) بل كيف نطالب بها، والخلل يأتي أيضاً عندما لا تقترن المطالب بقوة تجبر الآخرين على منحها لنا. فالمطالبة بدولة فلسطينية مستقلة ليس مرفوضاً بحد ذاته، والمطالبة ببعض حقوقنا لا يعني التنازل عن باقي حقوقنا، وإذا أردنا الاعتراض على خطوات محمود عباس فلنعترض على ما هو خطأ: لنعترض على الالتزام بعدم نزع الشرعية عن الكيان الصهيوني، لنعترض على "الرغبة الصادقة" بدولة فلسطينية تعيش بسلام مع جيرانها الصهاينة، لنعترض على التنازل عن حق العودة أو التلميح بإمكانية التنازل عنه، لنعترض على من يعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود.