تمهيد لعل النتائج الأساسية التي انتهيت إليها في "قراءة القصيدة التقليدية" تكاد تصبّ في مجملها ضمن نتيجة كبرى تتلخّص في أنّ هذه القصيدة تفتقر إلى نظريتها. وهذه قضية عويصة ومتشابكة العناصر، أحبّ أن اذكّر بصيغتها الكلية في هذه الدراسة. 1. إنّنا لم نحدد بعد مفهوم الشعر عند التقليديين الذين أميل أكثر إلى أن أسميهم شعراء عموديين، أي إلى تسمية قصيدتهم قصيدة عمودية، لا تقليدية. وأعني بمفهوم الشعر تأمل مختلف مواقفهم من إبداعهم الذي ندّعي أنه معارض وتقليد وأنماط محنّطة سلّطت عليهم من خارج الشعر. ثمّ مدى إخلاصهم لهذه المواقف، وقدرتهم على إنجازها ضمن عملية الإبداع ووفق القواعد التي يؤمنون بها فتدخل في صميم تجربتهم. 2. إنّ شعراء القصيدة العمودية سلّطت عليهم مفاهيم جمالية وفنّية من خارج إبداعهم ، فكانت تقوم تجربتهم الشعرية بمفاهيم لم يفكّروا فيها، ولا علاقة لها بالتصور الشعري لديهم. ولذلك فإنّهم كانوا ومايزالون في معزل عن هذه المفاهيم، وبعيدين جداً عن أن يخضعوا لها بحكم طبيعة تجربتهم التي لا يمكننا أن ننكر بأنها تجربة نابعة من صميم تراثهم الفني العريق في القدم، والممتد عبر أزمنة مختلفة وبيئات متعددة. إن الذين نظروا إلى التجربة العمودية الحديثة على أنها محض تقليد يصل - في رأيهم - إلى حد العمى أحيانا، إنما صدروا في مواقفهم المختلفة عن منظور عروضي ضيق يرى أن القصيدة ذات الشكل التقليدي قصيدة منظومة ، تفرض عليها الأوزان والبحور وشروط القافية من خارج التجربة الإبداعية. في حين أن المسألة في رأيي أعمق من ذلك بكثير. ذلك أنّني لا أتصور شارعاً كالجواهري وبن براهيم ، يعمد إلى القاموس فيختار منه قوافيه، أو ينظم الشطر الواحد لينتظر مجيء الشطر الثاني بعد ساعة أو يومين. إن الشاعر الحق تتكون لديه مقاييس قول الشعر قبل أن يقول الشعر، فتصبح لديه القدرة الفائقة على أن لا يكترث بالعروض أو يهتم بالوزن على أساس أنه حاجز يقمع لديه القدرة على الإبداع. وحتى إذا نّمق شعره وطرزه، فإنّما يفعل ذلك نفسه من منظور إبداعي صميم. ولا علاقة للعموديين الذين يحق أن نطلق عليهم هذا الاسم بهذا الذي نسميه تكلفا واصطناعا ومضمونا سطحيا مكرورا لا فائدة فيه. إن الشاعر شاعر مهما كان النمط الذي يوصغ فيه شعره. 4. لقد دافع كثير من الناس عن النمط العمودي، وخاصة كما تجلى لدى مدرسة الإحياء والبعث . ولكنهم حين فعلوا ذلك إنما فعلوه من خارج وزن القصيدة العمودية المعاصرة. أي بمفاهيم كانت حيوية في زمن أبي تمام والمتنبّي وابن زيدون؛ فإن هم طوروها قليلا قالوا: الشكل والمضمون في مكان اللفظ والمعنى، وذكروا وحدة الموضوع بدلاً من الغرض ، ثم تحدثوا عن الصورة عوضا من الحديث عن الاستعارة.. وهكذا إلى أن يصب الرافيع في عليّ بن عبد العزيز الجرجاني ، وزكي مبارك في الآمدي ، وعبد الله كنون في ابن بسام ، وهكذا كي يرد الحفيد البضاعة إلى جده في كثر من الأصالة التي قد نغالي أحيانا فيها غلى حدود محو زمننا وانتهاء قدرتنا على التجدّد. 5. ولكل ذلك فإن أهم ما استخلصناه في "قراءة القصيدة التقليدية" يمكن في أنّ هذه القصيدة تفتقر إلى نظريتها. أي أنّ الذين خاضوا ويخوضون ضدّها أو لصالحها هذا الصراع العويص الذي لا حدود له، إنّما يفعلون ذلك لغياب هذه النظرية بشكل رهيب. إنّ الرومانسية ذات نظيرة أو نظريات ينطلق منها أصحابها لخوض غمار هذا الصراع، بدءا بما دام دوستايل DeStaele وانتهاء الى ميخائيل نعيمة. كما أن اصحاب التوجهات الحداثية في الشعر والنقد يعملون ما أمكن على تقويض "التقليدية" انطلاقاً من مفاهيم نظرية واضحة ومستمدّة من عالمنا المعاصر. في حين أن التقليدية تفتقر إلى مفهوم الشعر والشاعر والتجربة الإبداعية، ومفهوم البيت والمقطوعة والنصّ والتداخل النصّي.. وما إلى ذلك من تصورات نظرية من الممكن أن تفيد جداً في مجال الدفاع عن هذه القصدية المتهمة من زمن شوقي إلى اليوم، ثم في مجال تمثلها ومطارحة قضاياها الكبرى والجزئية. إنها قصيدة فاتنة ولكنّها محيرة. ولعل أهم ما يمكن القيام به في هذه المرحلة من محاولة تجديد النظر في هذه القصيدة، هو: أ. دراستها من الداخل: أي الخوض في قضاياها الشائكة إنطلاقا من نصوصها الصميمة ، كقضية المعارضة والسرقة والأنظمة العروضية والإيقاعية والصورة في شكلها المجزأ، وبحسب شبكة عناصرها المتداخلة؛ ثم علاقة كل ذلك بمفهوم الإبداع الفني وأنه تجربة أصيلة ومتميزة لدى أعلام هذه القصيدة، ثمّ افتقارها إلى القدرة الإنجازية لدى فئات شعرائها غير المتميزين، كما هو الأمر تماما بالنسبة للقدماء، والرومانسيين، والحداثيين، وشعراء قصيدة النثر. ب. إننا لا يمكن أن ندعي القدرة على إنجاز هذا المشروع الضخم ومتشابك الأطراف. ولكنّنا سنحاول من خلال هذه الدراسة تبيّن بعض معالم هذه القضايا التي أشرنا إليها. وذلك انطلاقا من موضوع عامّ نرى خصوبته وحيويته بالنسبة لما نرومه من النظر في ثنايا النصّ العمودي وجزئياته عبر بعض النصوص المتميزة لشاعر نقترح اليوم أن يكون من المملكة العربية السعودية. أمّا الشاعر فهو عبد العزيز محيي الدين خوجة وأما القضية الكبرى التي سننظر في ثنايا النصوص كي نجرّب نتائجها فهي قضية: المعارضة والإبداع لدى هذا الشاعر. الفصل الأول * النموذج والمعارضة 1. المعارضة المقصودة والمعارضة غير المقصودة علينا أن نتذكر قبل الخوض في هذا الموضوع الذي يتبدى معه وكأن المعارضة محض تقليد وسير على هدي من سبق، بأن النموذج الشعري لا يتحدد على أساس أنه إعادة إنتاج غرض من الأغراض في قالب شعري متشابه، وأن لا فضل فيه للاحق على السابق. بل النموذج ذو طبيعة تجريدية ومتحققة في آن واحد. وتكمن طبيعته التجريدية - فيما يتلق بالشعر - في كونه وحدات عروضية قابلة لأن تستوعب أنظمة دلالية متعددة. ولكن شرط هذه الأنظمة في النموذج التقليدي بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة هو عدم تغير النظام من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى غيرها. إن النموذج يظل متفرداً حين يجاوز الزمن الذي أنتجه، فيعبر عن نظام دلولي قابل لأن يفهم ضمن بنيات مركزية لمجتمعات مختلفة ومتعددة. ولذلك فإنه يكون في أقصى حالات الإبداع نموذجاً إنسانياً. ولنا في الأنظمة الدلالية التالية بعض الأمثلة على هذه المجاوزة التي تحول الزمن الاجتماعي إلى زمن إنساني ، يجاوز التاريخ والبيئة الجغرافية والأنظمة السياسية والاقتصادية، إلى إبداع نماذج غير موقوفة على زمن إنتاج النص وحدود هذا الزمن. أ. نموذج : خلاص VS قدر وهو نظام دلالي أسفرت عنه المأساة اليونانية فاستطاع ان يتجاوز المجتمع اليوناني القديم ليتجدد في الماساة الكلاسيكية وفي مسرح العبث ، ثم في بعض الروايات الحديثة كما هو الأمر عند إميل زولا ودوستويفسكي. ولذلك فإن القدر الشقي، ومحاولة الخلاص منه، نموذج للمأساة البشرية، أيّا كان مصدرها وظروف إبداعها. أي أنّه لا يرتبط بالمجتمع الوثني المحكوم بالآلهة ارتباطاً حتميا، وإنّما يتجاوزه ليرتبط بالديانة المسيحية عند راسين مثلا، أو بشقاء الإنسان المعاصر في المجتمعات الأوروبية ذات التوجه الرأسمالي الرهيب والمتوحش.. إنه باختصار نموذج إبداعي إنساني يتصف بالشمولية. ب. نموذج : نور VS ظلمة إن هذا النظام الدلالي مأخوذ من القرآن، وأعاد إنتاجه في الشعر العربي القديم شعراء متعددون كحسان بن ثابت وعبد الله بن قيس الرقيات في مدح الزبيريين، ثمّ أبو تمام الذي وصل بهذا النظام إلى أقصى درجة من درجات الخصب والإبداع الفنّي المتميز، وخاصة في "فتح عمورية". ولكنّنا لن نعدم الأمثلة على ذلك في الشعر الإسلامي عند الفرس أو الباكستانيين مثلاً. وحين يؤخذ النموذج في إطاره الشكلي الصميم ، إلى التعبيرية عن نظام دلالي جديد، نكون بصدد قضية شائكة الفصل فيها إلا إذا أدخلنا في الاعتبار: أ. صراع النماذج. ب. خصوبة النماذج. ج. استنساخ النماذج. إنّ الأنظمة الدلالية تصبح بمثابة نماذج، حين تستطيع إزاحة أنظمة دلالية غيرها، تتميز بسمات النمذجة المتعارضة. أي أن الظلمة والنور عند حسان تعبير واضح عن الإيمان والكفر، وعن الخير والشر، وعن الظلم والعدل.. وكلها أنظمة دلالية من صميم الإسلام الذي أسسها بعد صراع مرير ضد قيم الجاهلية، وما كانت تسفر عنه من أنظمة دلالية مختلفة، اصبحت بمثابة نماذج راسخة داخل مجتمع يخلط العدل بالقوة، والشر بالغلبة ، والكفر بالديانة. إنه مجتمع يخلط بين قيم متضاربة، ولربما لذلك سمّي مجتمعا جاهليا. ولكن هذا يجب ألا ينسينا بأن هناك من النماذج الجاهلية ما انفصل عن بنياته المركزية، ليتنامى بأشكال جديدة ضمنت استمرار النموذج وحيويته، داخل مجتمع جديد، فصل في قضية الدين، ثمّ لو يشجب نموذج: الكرم VS البخل - الشجاعة VS الجبن - السلم VS الحرب .. إلخ . وهنا نقف على مفهوم خصوبة النموذج. إنّ هذه الخصوبة نفسها، هي التي جعلت نظام الظلمة والنور، يتخذ عند أبي تمّام ، صيغة جديدة تتصف بشجب المثنوية عند الفرس، أي بخوض الصراع ضدّ ظاهرة الزندقة ، وبالتصدي للخرافة، ولأقوال المنجمين التي قد تعد من قبل كثير من المسلمين كفرا جديدا، ثم بالتصدي للمسيحية التي تهدد الإسلام ، فلا تتعايش معه بقدر ما تريد محوه والتسلط عليه، لتتخذ صبغة ديانة سماوية بعيدة جداً عن القيم الأصيلة التي جاءت بها الكتب السماوية، فتصبح بعيدة عن قيم التوحيد والعدل والسلم، لتقترب من الكفر والجاهلية. وهذا أخطر ما في هذه القصيدة التي تعد نموذجاً لخصوبة إسلامية منتجة. إن النموذج الخصب هو وحده الذي بإمكانه أن يستنسخ ، أي أن تظل صورته هي ، ولكن نظامه الدلالي يتغير في حدود جزئية. أي أن نظام الماساة الذي هو : قدر VS خلاص، والنابع من بنيات مركزية هي: الآلهة VS الإنسان، قد يتغير إلى نظام : عبثVS عبث ، حيث لا فائدة من الآلهة والإنسان، إذ يرتبط بمجتمع رأسمالي تحكمه الآلة والاشياء ، فلا إرادة فيه للآلهة، ولا إرادة فيه للإنسان. وبالمقابل فإن نظام : ظلمة VS نور ، قد يتحول جزئياً إلى أنظمة من مثل : شرّVSخير - ظلم VS عدل .. إلخ. ثمّ يظلّ النموذج خصباً وحيوياً ومستمراً. إن فن المعارضة في الشعر العربي أكبر شاهد على خصوبة النماذج. وهنا لابد من الإشارة إلى أن النموذج ذو أثر رجعي، أي أنه لا فضل فيه للسابق على اللاحق. بل قد يكون اللاحق هو صانع للسابق ، فهو لديه أكثر دلالة، وأكثر خصوبة وعمقاً . فهو في النظام الذي أشرنا إليه أكثر عمقاً وتعبيراً عند حسان أو غيره من الشعراء الذين سبقوه إلى رسم بعض معالم نموذجة . أنه في فتح عمورية استوعب كما ذكررنا ذلك قبل قليل مثنوية الفرس "الزنادقة"، وترهات المنجّمين "العقل الخرافي"، ثم تشويه المسيحية وتحولها إلى مايشبه الكفر، بمحاولتها الحرب ضد المسلمين. أي تحولها إلى ظلمة، في وقت لابد فيه من أن تدعو إلى قيم الخير والعدل والتوحيد والسلم. وسننظر الآن في نوعين من المعارضة عرفهما الشعر العربي قديما وحديثاً، هما المعارضة المقصودة، والمعارضة غير المقصودة. وذلك على أساس أن : أ. المعارضة المقصودة نابعة من نموذج خصب، يستنسخ دون أن يتغير نظامه الدلالي. ب. المعارضة غير المقصودة نموذج خصب يتغير نظامه الدلالي، فلا يستنسخ، بل يتولد عنه نموذج جديد، بإمكانه أن يزيح النموذج القديم، إذ يصب في مصب الصراع ضده. ويمكننا أن نذكر من أمثلة المعارضة المقصودة، قصيدتي عبد يغوث ابن وقاص الحارثي: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا وما لكما في اللوم خير ولا ليا ومالك بن الرّيب: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا ومن أمثلة المعراضة غير المقصودة، قصيدة المتنبي: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا فنحن نرى أنّ الرثاء في الحياة قد تغير عند المتنبي بشكل جذري، إذ لا يأسف على حاله أو يتحسر، بل يرى في الموت راحة كبرى يتمنّاها، من فرط معاناته ومأساة قلقه. ولذلك فإنّ النموذج كما يتمثّل لديه، خصب وحيوي، ولكنّه لا يستنسخ أو يعاد عند مبدع كبير مثل أبي الطيب. 2. بين شوقي وعبد العزيز محيي الدين خوجة. يقول: سألتُ القلب حين ثوى وتابا وأشرعتي تحفّزني غضابا وهي قصيدة كما يبدو من البحر الذي اعتمد عليها، وكذا من رويّ هذه القافية ، ومن موضوع القصيدة صريحة لقصيدة شوقي: سلوا قلبي غداةَ سلا وتابا لعلّ على الجمالِ له عتابا إننا بصدد نموذج خصب ومستنسخ، علينا أن نتساءل حوله: - هل يعيد النظام الدلالي نفسه الذي يوجد في قصيدة شوقي؟ - هل يؤسَس نظاماً دلالياً جديداً ؟ - هل ينازع النموذج السابق سلطتَه؟ - ماهو نوع الارتباط بالبنية المركزية في قصيدة عبد العزيز محيي الدين خوجة؟ وكلها أمور لا يمكن أن ننظر فيها إلا : أ. بمعرفة الشبكة المقطعية التي اعتمدتها القصيدة. ب. باستخلاص المقاطع الصوتية ذات القدرة الكبيرة. ج. بتبيّن النظام الدّلالي في القصيدة. لقد انبت هذه القصيدة على حرفين أساسين، منهما تشكّلت بنيتها المقطعية، هما حرف اللام وحرف النون اللذين تردداً فيها ما يناهز مائة وخمسين مرة. ولذلك جاءت مجمل مقاطعها الصوتية مشكّلة من أحد هذين الحرفين، أو منهما معا. وبتأمّلنا لمجمل هذه المقاطع حصلنا على المجموعتين التاليتين: أ. فجاء محمدٌ ب26= فجاء محمد ب27 ب. وأنّ الله ب15= وأنّ الله ب21 فنلاحظ : 1. أنّ النون واللام اجتمعا في قوله : أنّ الله. 2. أنّ المقطعين تشابها في حدود سبعة أحرف هي: أ+ ن+ن+ل+ل+ا+ه. 3. إنه لاجتماع هذين الحرفين، ولتضعيفهما داخل المقطعين، نعتبرهما أكثر قوة في التعبير عن النظام الدلالي للنص من قوله : فجاء محمدٌ، اللذين اشتملا على عشرة أحرف متشابهة هي : ف+ج+ا+ء+م+ح+م+م+د+ن. لكنّه لم يحضر فيها إلاّ حرف النون. هذا دون أن ننسى طبعاً بأنّ هذين المقطعين سيعكسان حتماً النظام الدلالي نفسهه الذي يعكسه المقطعان السابقان. إنّ تبيّن نظام دلاليّ ما، لقصيدة معيّنة، يقتضي اعتبار المقاطع الصوتية ذات القدرة الكبيرة، وحداتٍ دلالية صغرى ، لابدّ أن نستحضر سياقها الخاصّ، ثمّ العامل الدلالي الذي يتحكمّ فيها، وكذا القسم السياقي الذي تدخل ضمنه فالوحدة الدلالية الكبرى التي تكونها مع هذا القسم. وهو ما يمكن توضيحه حسب الجدول التالي: العامل وحدة د.ص. سياق خاص قسم سياقي ود. كبرى نظام دلالي عامل مفعول أن الله علمنا (محمد) إسلام الله + إسلام إسلام VS كفر عامل مفعول أن الله نادي (محمد) إسلام الله + إسلام إسلام VC كفر ومعنى هذا ان النظام الدلالي الذي تعكسه القصيدة نظام نابع من صميم الدعوة الإسلامية التي جاءت لتبدل أحوال الناس من الكفر الى الإسلام. وهو ما يؤكده أو يعكسه أيضا المقطعان: فجاء محمد – فجاء محمد العامل وحدة د.ص. سياق خاص قسم سياقي ود. كبرى نظام دلالي عامل فاعل فجاء محمد كان الكون كفر محمد + كفر كفر VS إسلام عامل فاعل فجاء محمد كان الكون كفر محمد + كفر كفر VS إسلام فنلاحظ: 1 – أن الله في المجموعة الاولى عامل مفعول لمحمد، يتحول إلى عامل فاعل، بعث الكتاب، ووعد الثواب. أي أن البنية الدلالية لهذه المجموعة تتدرج وفق الشكل التالي: عامل فاعل (محمد) ---- عامل مفعول "الله" ----- عامل فاعل ----- إسلام. 2 – تقتضي هذه النبية الدلالية استحضار عامل مفعول ثان في البيتين اللذين ورد فيهما المقطعان الصوتيان يتحدد في أن محمدا صلى الله عليه وسلم علمنا ونادى الناس. أي : عامل فاعل (محمد) ----- عامل مفعول (نا + الناس). 3 – وهو ما يستدعي بالضرورة كون محمد معلماً ومناديا في الزمان. أي أنه عامل مفعول لمن جعله كذلك وهو الله سبحانه ولذلك فإن البنية العميقة تتألف وفق الترسيمة التالية: عامل فاعل (الله)---- عامل مفعول (محمد) ---- عامل فاعل ---- البشر ---- الإسلام 4 – إن هذه البنية العميقة هي ما يعكسه بالضبط المقطعان الصوتيان: فجاء محمد – فجاء محمد عامل فاعل (الله : باعث محمد) ---- عامل مفعول (محمد : رسول) عامل فاعل ---- كفر ---- إسلام 5 – إن الإسلام على هذا الأساس نظام كوني، ورؤية شمولية، غير مقتصرين على قوم دون قوم أو على زمن دون زمن إنه نظام لا نهائي ومطلق. إن هذه القصيدة – كما قلت ذلك قبل قليل – معارضة صريحة لبائية شوقي: سلو قلبي عداة سلا وتابا لعلّ على الجمال له عتابا ولذلك فان علينا أن نتبين النظام الدلالي الذي تعكسه قصيدة شوقي، حتى نتبين حدود المقارنة بين القصيدتين، وحدود التقليد واستنساخ النموذج عند عبدالعزيز محيي الدين خوجة. يقول شوقي في البيت الثالث من قصيدته: ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا فنستخلص أن المقطع الصوتي : (الجمال له) في هذا البيت يتجانس تجانساً تاماً مع المقطع الصوتي : (الجمال له) الوارد في البيت الأول أي: الجمال – الجمال له : سبعة أصوات متشابهة. وهو ما يمكننا من تبين النظام الدلالي الذي تخضع له القصيدة وفق الشكل التالي : العامل وحدة د.ص قسم سياقي ود. كبرى نظام دلالي عامل مفعول الجمال له قلب (تائب) توبة جمال + توبة توبة VS معصية عامل فاعل الجمال له صواب (توبة) توبة جمال + توبة توبة vs معصية إن النظام الدلالي الذي تتحرك فيه قصيدة شوقي هو نظام المعصية والتوبة في الإسلام يؤكد ذلك ورود المقطعين : تابا ب 1 – تابا ب 5، اللذين يدلان معا على القلب باعتباره موطن الإيمان في مجال التصور العربي والإسلامي أي فاعل البيان يعلن التوبة بعد المعصية فيقبل منه الإسلام ذلك على أساس أنه دين التسامح في مستوى الفرد والجماعة يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك بالله. ومعنى هذا أن نظام القصيدة السابقة يستوعب نظام قصيدة شوقي ويمتصه كما يقال أصحاب نظرية التناص. ولذلك فإن التقليد من وجهة النظر ، قد يكون امتصاصا لنص معين أو استيعابا جزئيا لنظامه الدلالي، ثم تدرجا جديدا بهذا النظام حتى ينخرط النظام السابق والنظام اللاحق في اطار نظام دلالي عام هو أصل النموذج ومنتهاه. ولإقامة الدليل على ذلك سنعقد مقارنة بين: أ – البوصيري وشوقي من جهة. ب – بينهما وبين عبدالعزيز محيي الدين خوجة من جهة ثانية. أ. بين البوصيري وشوقي: يقول البوصيري: أمن تذكّر جيران بذي سلمٍ مزَجت دمعاً جرى من مقلة بدم وهي قصيدة في التصوفّ،وفي مدح الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد انبت على حرفي الميم والنون. ولذلك فإن بنيتها الصوتية والإيقاعية مؤسسة على هذين الحرفين. وقد تردّدا في المقطوعة الثالثة منها ما يناهز 120 مرة. فحصلنا تبعا لهذا التردد على المقطعين الصوتيين التاليين: المستمسكون = المستمسكون وذلك من خلال قوله: دَعَا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبل غير منفصم وهو ما يمكّننا من استخلاص النظام الدلالي التالي: العامل وحدة د.ص. سياق خاصّ قسم سياقي ود.كبرى نظام دلالي عامل فاعل مستمسكون محمد وسيلة مستمسكون + وسيلة وسيلة VSغاية عامل فاعل مستمسكون حبل وسيلة مستمسكون + وسيلة وسيلة VSغاية وهو نظام نستخلص منه أن التصوف الذي مارسه البوصيري يمكن في محبة الرسول ، ثم اعتبار هذه المحبة وسيلة إلى محبة الله وعبادته. وهو بذلك قد يخالف متصوفة آخرين، تواصلوا مع الذات الإلهية ، بشكل مباشر، فأرادوا الحلول والفناء في هذه الذات دونما وسيلة إلى ذلك. ويقول شوقي: ريم على القاع بين البانِ والعلمِ أحلّ سفك دمي في الأشهُر الحُرُمِ وهي قصيدة مبنية على حرق الميم، ومن أبياتها: محمّدٌ صفوة الباري ورحمتُهُ وبُغيةُ الله من خَلقٍ ومن نَسمَ قد أخطأ النجم ما نالت أبوّتُهُ من سؤددٍ باذخ في مظهر سنمِ فنجد أنّ نظامها الدلالي قائم على مقولة: قوةVS ضعف، وذلك وفق الشكل التالي: العامل وحدة د.ص. قسم سياقي ود.كبرى نظام دلالي عامل مفعول نسم كثرة قوة نسم +قوة قوةVSضعف عامل مفعول سَنمِ علوّ قوة سنَمِ+قوة قوةVSضعف 2. بين شوقي وعبد العزيز محيي الدين: لقد تبيّنا فيما سلف بأنّ النظام الدلالي الذي اعتمدته قصيدة شوقي هو نظام : القوة والضعف ؛ فعلينا الآن أن نقارن قصيدته بقصيدة الشاعر عبد العزيز محيي الدين خوجة حتى نتبين حدود تأثره بشوقي. يالفتةَ الظبي تغويني إلى الحُرُمِ يحلو لده دمُنا في الحِلَّ والحرمِ أسْرى بك اللهُ تفضيلا ومكرمَةً ليلاً إلى المسجد الأقصى من الحَرم فنستخلص من هذين البيتين فقط أنّ القصيدة منبنية على مقاطع صوتية تعتمد حرف اللام اساسا لها. إذ علينا أن نلاحظ بأنّ اللام تردّد في هذين البيتين ثمانية عشرة مرة، تسع مرات بالنسبة لكل واحد منهما. فأسفر هذا التردد عن المقاطع الصوتية التالية: الحُرُمِ = الحَرَم - الحَرَم : أربعة أصوات متشابهة: وهي مقاطع من الممكن أن نحلّلها وفق الشكل التالي: العامل وحدةد.ص. سياق خاص قسم سياقي ود. كبرى نظام دلالي عامل مقصود الحُرُمِ غواية حرام الحرم + الحرم حرام VSحلال عامل مقصود الحَرَم دم حرام الحرم + حرام حرامVSحلال عامل قاصد الحَرَم مسجد إسلام الحرم + إسلام إسلام VS ديانات سماوية وهو مانقف من خلاله : أ. على نظام التوبة الذي سبق أن رأيناه في بائية شوقي، أي: معصية VS توبة = حرام VS حلال ب. على نظام: إسلام VS ديانات سماوية ، الذي لابد من أن يتكامل مع النظام الدلالي الذي وقفنا عليه في بائية عبد العزيز محيي الدين خوجة ، أي: إسلام VS ديانات سماوية = إسلام VS كفر وبرجوعنا الآن إلى مختلف الأنظمة الدلالية التي تبيناها على بائية أبي تمّام: نور VS ظلمة ، وبائية شوقي : معصية VS توبة ، وبردته: قوةVS ضعف ، ثم إلى بائية عبد العزيز محيي الدين خوجة: إسلامVS كفر، وردته حرام VS حلال + إسلام VS ديانات سماوية ؛ برجوعنا إلى كل ذلك نستطيع أن نقول إن مختلف هذه الأنظمة يرتبط بنموذج دلالي واحد هو نفسه الذي تكرر بصيغ مختلفة وباستنساخ حيوي يدل على الخصوبة والقدرة على الإبداع اللانهائي. ونعني بذلك نموذج : إسلام VS كفر ، الذي انفصل عن بنيته المركزية التي هي بنية المجتمع الجاهلي ، ليتجاوز حدود الزمن والمكان فيصبح نموذجاً إنسانياً عاماً وصالحاً لكل عصر وبيئة. ولكنّ الأصيل عند عبد العزيز محيي الدين خوجة هو أنّه شاعر إسلامي من صميم بيئة الإسلام وموطنه، ولذلك فإنّ التعبير عن النموذج عنده صريح وواضح . فلا نستغرب إن زعمنا الآن بأنّه شاعر يتميز برؤية إسلامية شمولية ومتكاملة. علينا أن ننظر مكوناتها المختلفة، ثمّ في مختلف العلاقات بين هذه المكوّنات.