وسط حضور نسائي متميز من سيدات المجتمع والفنانات التشكيليات والاعلاميات رعت صاحبة السمو الأميرة أضواء بنت يزيد معرض عصفور البرد للفنان فهد الحجيلان بقاعة اتيليه جدة للفنون الجميلة وقالت ان معرض الحجيلان يعد واحداً من افضل المعارض التي شاهدتها في الساحة التشكيلية السعودية اذا لم يكن الافضل بالفعل، واشارت إلى ان الفنان يمتلك البراعة اللونية رغم اقتصاده في اللون واعتماده علي دائرة محدودة من الالوان يأتي مقدمتها الرماديات وجميل أن تكون المرأة هي المحور الرئيسي في كل اعماله واضافت الاميرة اضواء ان اكثر ما لفت انتباهها هي المسحة التعبيرية على الوجوه والتي تنطق بالفعل بصدق تلقائي واعربت السيدة جواهر ناظر عن سعادتها بحضور هذا المعرض المتميز لفنان سعودي وتمنت ان ينتقل هذا المعرض خارج المملكة ليرى العالم ما وصل اليه الفن السعودي من مكانة رفيعة وكان الفنان صادقاً بالفعل مع كل لمسة وضربة فرشاة على لوحاته. أما الفنانة علا حجازي فقالت ان معرض الحجيلان هذا يعد النموذج الاوفي لكل مراحل ومعارض الحجيلان التي اقامها من قبل وقالت ان معرض الحجيلان يعتبر بالفعل درسا لكل الفنانين المبتدئين والذي يجب ان يزورا هذا المعرض ليستفيدوا من تجربة الفنان الرائعة. هذا وشهد اليوم التالي للافتتاح حضورا متميزا من الفنانين من بينهم طه الصبان واحمد فلمبان وربيع الاخرس وعبدالله حماس وعبدالله ادريس وفيصل الخديدي وصديق واصل وسامي جريدي ووهيب زقزوق وعوض ابو صلاح والشيخ ادريس وقال الفنان عبدالله ان المعرض جاء كبيرا وكان رائعا ومتميزا في كل شئ لان الحجيلان فنان صاحب فكر وخبرة طويلة مع الفن التشكيلي واعجبه بشكل خاص الاعمال ذات المساحات الكبيرة والتي تتجلي فيها قدرات الفنان التشكيلية وقال فيصل الخديدي ان اتيليه جدة دائما يتحفنا بالمعارض المتميزة بين حين لاخر لذا كان لنا مع الاتيليه شراكة اساسية في نشاط الجمعية التشكيلي وقال ان الحجيلان فنان اصيل وخصوصا في فن البورتريه والذي يجيد فيه قلة قليلة من الفنانين السعوديين لانه يتطلب بالفعل مهارات وادوات لا يمتلكها الكثيرون. وفي قراءة نقدية للمعرض قال الناقد المصري المعروف محمد كمال في وجوه فهد الحجيلان بعنوان عصفور البرد يستحضر دفء الذاكرة أن علماء الاجتماع يجمعون أن بيئة المنشأ الأولى لها القدر الأكبر من التأثير على التركيبة الإنسانية خلال مراحلها العمرية المختلفة، على الأصعدة الإجتماعية والسياسية والثقافية والإبداعية، حتى أن بعضهم ذهب إلى تشريح الشخصية لعدة طبقات متواترة، لكل منها طبيعتها المعرفية المختلفة، وهو ماجعلهم يكشفون عن هذا السلوك الإنسانى بنظريات متتابعة تشبه تراكم أطلال التدوين على ألواح الكتابة، وهنا يبدو المنتج النهائى للمبدع كسطح النهر الذى يأوى في قاعه كنوزاً متنوعة، تؤدى بدورها إلى إدراك ماوراء المرئى المحسوس، وفي هذا السياق يجب علينا أن نفرق بين البيئتين الصغرى والكبرى، بما يشير إلى العابر منها والراسخ، واللتين تساهمان في بناء الشخصية الإبداعية عبر تضافر بين العناصر الزمانية والمكانية والعقائدية داخل كل بيئة على حده، فإذا دققنا في الرحلة العمرية للفنان، سنجد أنها كمثل مصب لعدة روافد ثقافية متنوعة، تنسجم في مجموعها لتشكيل الملمح العام لمنجزه الإبداعى . . وربماعلى خلفية هذا الطرح يمكننا تأمل التجربة التصويرية " عصفور البرد " للفنان فهد الحجيلان، والتى يستخدم فيها الألوان الزيتية على أسطحه النسجية، لحرث ذاكرته الإنسانية الأولى، حيث مولده عام 1957م في مدينة " بلبيس " التابعة لمحافظة الشرقية الواقعة شرق دلتا مصر، لأب وأم سعوديين وجدة مصرية، علاوة على مجموعة من الأصدقاء الذين عاش معهم فهد طفولته في بلبيس عند مطالع الستينيات بين لعب الكرة الشراب، والتسامر في مداخل العمارات، وتبادل الحوارات ليلاً تحت أضواء أعمدة الكهرباء في الشوارع، وركوب الدراجات، والتشبث بمؤخرات عربات الحنطور، وصناعة الطائرات الورقية، والمناورات الطفولية بين البيوت .. وبات فهد يلهو ببراءة بين أقرانه داخل دائرة من الصفاء الذى يملأ فضاء حياته من البيت إلى الشارع إلى المدرسة، في ظل حكم الزعيم جمال عبد الناصر الذى منح أماناً واسع المدى للناس، وعمق انتماء الجميع لعروبتهم ووطنهم الكبير من المحيط إلى الخليج، حتى كانت نكسة 1967م التى طعنت الوجدان الجمعى طعنة نافذة في جسد ظل يترنح كثيراً تحت تأثير الصدمة التى سرعان مابدأ يتعافي منها رويداً ، ويستعيد توازنه ثانية .. في تلك الأثناء كان فهد الحجيلان يكتسب صداقات جديدة من مهجرى مدن القناه الذين انتشروا في معظم ربوع مصر، من القاهرة إلى الإسكندرية إلى الصعيد إلى الدلتا التى تنتمى لها مدينة بلبيس، حيث تربى فهد على ثقافة التلاحم والتراحم الشعبى في زمن المقاومة والإرادة والحب، كبيئة خصبة شكلت الينابيع الأولى لكيانه الإنسانى، والتى ظلت تلح على وجدانه المتوتر، إضافة إلى تشبعه بمعرفة بصرية ولغوية من المجتمع الثقافي المصرى مع نهايات الستينيات ومطالع السبعينيات، خاصة مجلة " صباح الخير " _ على حد قوله _ ، حتى عاد إلى المملكة العربية السعودية وهو في سن الثامنة عشر، محتفظاً بكل رصيده الفطرى والمكتسب من الفضاء المصرى الثرى، ثم يحصل عام 1979م على دبلوم التربية الفنية، ليدرس الفن حتى عام 1999م، وهى نفس الفترة التى عمل فيها رساماً صحفياً أيضاً، ليزيد عليها ثلاث سنوات أخرى حتى عام 2002م، إلى أن أمسى الحجيلان ممتلكاً لأدواته الفنية عبر قدرات تصويرية لافتة، أهلته للحرث الإبداعى في أرض نشأته البكر، حيث صلصال البراءة الرطب القابل للتشكيل .. وهنا تتزاوج القدرة الإبداعية مع الرغبة الإستعادية، عبر تجربة الفنان المثيرة " عصفور البرد " التى يسترجع من خلالها دفء بواكير الذاكرة التأسيسية في مصر كبيئة صغرى وكبرى في آن، حيث تتأرجح عنده بين المبارحة والديمومة .. بين الحركة والثبات .. بين الطيران والتجذر، وربما من منطلق هذا الحس البندولى الواقع بين الفائت والآنى، يمكن لنا أن نتامل شخوص فهد الحجيلان التى اتخذ منها جسراً لسبر أغوار تربة الماضى، حيث شوقه العارم لإماطة اللثام الزمنى عن وجوه أصدقائه وجيرانه وزملاء دراسته الذين يقول عنهم " هؤلاء البشر هم من أثروا وجدانى ؛ فأصبحوا أوتاداً في ذاكرتى، رغم الغيام الذى يدثر ملامحهم في مخيلتى "، فإذا تأملنا تصاويره التشخيصية، على ضوء ماطرح سلفاً، إضافة إلى عبارته الذاتية الكاشفة، سنجد مبرراً لأدائه بالألوان الزيتية على التوال، والذى يميل من خلاله للتكثيف في بناء ملامح الوشوش، والبعد عن المحاكاة الواقعية والضوابط التشريحية والتفاصيل البنائية، حتى يصل إلى حالة تصويرية يقترب فيها من مزيج بين تصاوير الكهوف البدائية القديمة ورسوم الأطفال، عبر جمع واع بين العفوية الفطرية والرصانة الأكاديمية، بما يشى برغبة واضحة في الإلتقاط السريع لملامح الأشخاص الذين عايشهم الفنان في مصر إبان فترتى طفولته وصباه، لذا نجده يركز في أغلب الأعمال على منطقة الرأس والرقبة، وفي بعضها القليل يتسلل إلى الجذع، ربما لأنه مشغول بمركز التعبير الشعورى المتبادل معهم حتى الآن، حيث يقول في هذا الصدد " أنا دائم الإتصال مع أصدقاء تلك الفترة، حتى أصبحوا بمثابة رحم لى، فلا أتوان عن مشاركتهم أحزانهم وأفراحهم وأزماتهم وانفراجاتهم في الوقت المناسب " .. وهنا أعتقد أن فهد يعتمد بشكل كبير على انفعالاته الوجدانية في الإغتراف من جب الذاكرة، بعيداً عن محاكاة السمات الحقيقية للوجوه، فهو يستدعى فقط إحساسه العاطفي بهم، داخل المساحة التاريخية الواصلة بين الماضى والحاضر ، وربما يفسر هذا أن معظم الوجوه يسودها اللون الأبيض المضىء، كستار على شرايين الذاكرة، يدفع بالصورة إلى حيز الحلم اليقظ الذى يتحكم فيه الفنان بآلية إرادية تتأرجح بين العزم الذهنى والطراوة الشعورية .. وعند هذا المنعطف التحليلى نجد أنفسنا أمام جوهر مهمة عصفور البرد في التجربة، حيث يمثل العصفور الذات الفردية الحاضرة لفهد نفسه، والتى يطلقها من عقالها للإلتحام بالذات الجمعية الماضية، وخلال هذه المسافة التى يقطعها عصفور الذات نحو بستان الذات الجمعية الرابض في الزمن المنصرم، نلاحظ مروره ببعض دوامات البرد العاطفي، والتى تخلق بداخله طاقة حسية مضادة، يستجلب بها الحد الأقصى المتاح لدفء الذاكرة الإنسانية ؛ فتحدث تلك القشعريرة الإبداعية على المسطح التصويرى، إذ يحتشد الحجيلان بالتوتر الفنى الذى يسربه بدوره إلى مجال الصورة البصرية عبر جسر التصور البصيرى .. وعند هذه البقعة على منحنى غزل المشهد التصويرى، نجد الفنان يفر من فخ تفاصيل الوشوش التى قد تعرقل اقتناصه للمشهد الهلامى الساكن في رحم الذاكرة .. ومن المرجح أنه أثناء عودته إلى الزمن الفائت، تختلط عنده التجربتين الفنية والإبداعية، حيث تظهرفي شخوصه بعض من تأثيرات الفنان الكبير سيف وانلى علي أدائه، خاصة أنه لاينكر تأثره بمنجزه أثناء إقامته بمصر، بيد أن التأثر هنا يبدو مشروعاً، بعد أن سيطر فهد على أدواته، مؤسساً تجربته الخاصة المرتكزة على مهاراته التقنية المتفردة . واللافت هنا في وجوه الحجيلان، هو ذلك الفارق اللونى الواضح بين الضى الأبيض الكاسى لتضاريسها، والعتمة الداكنة المكللة لشعر رؤوسها، وربما كانت تلك المسافة هى نفسها الواقعة بين الفائت والآنى .. بين الزمنى واللحظى ، بما يحتمل تأويل ظلمة الشعر النسبية، أنها إطار فعلى للحظة الإبداعية الراهنة التى يستلب بها فهد ضياء الجواهرالكامنة في خزان الذاكرة، لذا فإننى أميل إلى أن تلك المساحات الغامقة هى لتأطير الحلم اليقظ القادم من بئر النشأة الأولى .. والمدهش في هذه التجربة أن وجوهها تجنح بشكل نسبى نحو الأنوثة دون الذكورة، رغم أن صداقات الفنان في تلك الفترة كانت مع رفقائه من الصبية، لكننى أعتقد أن ذلك الإستحضارالأنثوى إنما لضرورة وجدانية داخل معمار الحلم نفسه، حيث المراهقة المبكرة التى تفرض الإنجذاب نحو الطرف المخالف بيولوجيا، وقد تنوعت ملامحهن بين نساء ناضجات وأمهات حانيات وصبايا فاتنات، ظهرن جميعاً داخل الصورة خلف مساحيقهن المعهودة التى تبرز مفاتنهن كما يستحضرها الفنان، عبر القناتين الغريزية والروحية في آن، وهو مايتجلى في اكتناز الشفائف وحمرة الخدود ونداء العيون، كعناصر أنثوية متجذرة في التراث الشعبى العربى، والتى تبقى كقطرات الندى على أوراق الشجر في بستان الرغبة الإنسانية، حيث يظل الفنان فهد الحجيلان ممتطياً جواد الحنين إلى الماضى في سبيله صوب ينابيع الميلاد والطفولة والصبا، كعصفور يطير فوق سحابات البرد، ليستحضر دفء الذاكرة .