يدير ظهره لهيجان أمواج البحر الممتد ويمشي.. لا يستطيع ان يرى بحر اليامال والسفر الذي أخذوه أسيرا منذ اليوم الثالث.. يتركه خلفه ويمشي.. يمشي.. يترك سواحله المهجورة ويمشي.. ينأى.. ينأى في الظلام ويمشي.. صوب الهدف يمشي. لأول مرة منذ ذكرى أغسطس الآثم لا يهتم بمنع التجول.. يمشي.. يبتعد.. يتذكر نيران الحقد.. سلب.. تدمير.. قصف.. موت.. يحاول ان يعود.. تحاول خطواته ان تدنيه من البيت.. الظلام يشتد.. يحاول ان يسرع الخطى.. يتعثر.. قدماه تتورمان.. ومع ذلك مضطر ان يمشي مسافة اخرى يمشي ليصل.. الى البيت.. واولاده ينتظرونه على الباب. يتأخر.. منع التجوال يبدأ.. التفتيش في كل المواقع والجهات. زوجته تنتظر.. تتأمل عقارب الساعة والباب.. تخطو الى الخارج.. تتأمل السماء الداكنة بالظلام والدخان.. مازالت تنتظر.. تنتظر.. الدموع تخنقها.. يتناثر وجعها على عتبة فضاء الدار.. الوقت ينكسر.. تتساقط ساعات الانتظار.. ما أوجع الانتظار. بالأمس صرخ في وجه الظلم راميا استقالته.. واليوم يصرخ في وجه الطغاة المحتلين. يسير يصفعه صوت الجندي حادا كالمقصلة.. قاسيا كالسيف.. يصرخ به: قف مكانك - بندقية الآخر الى صدره. الدم يصعد الى وجهه.. يلتمع جبينه بالعرق الحار.. جفاف شديد في حلقه.. يسمع دقات قلبه.. يضطرب حين يجد نفسه محاصرا في مكامن الخطر.. تزرعه الأحزان.. نقطة سيطرة.. نقطتان.. ثلاث.. جنود السيطرة يقفون بتكبر.. يفتشون عابري الطريق.. الذاهبين والقادمين.. يفتشونهم تفتيشا دقيقا.. ويتهمون المارة بكل شيء.. يقطعون عنهم مد الطعام والمعونات.. يرهبون أبطال المقاومة.. يتركون جثث الشهداء اليافعة أمام الأبواب. الصوت العنيف يتكرر.. يصرخ ثانية: قف مكانك.. ويداك فوق رأسك. يتسمر في مكانه.. يلتقط انفاسه.. يتمالك نفسه امام الموت والرصاص.. يمتثل للاوامر المتعسفة.. يتذكر عيون اطفاله الصغار.. يقترب الجندي منه صاخبا.. يتحسس جسمه.. يسأله: بطاقتك الشخصية؟ قبل ان يرد عليه.. يمد يده يفتش جيوبه.. يخرج بطاقته.. يتأملها مليا.. يفحصها بعناية.. يحتفظ بها.. يسمح له بالانصراف ومواصلة السير. آه لو أفقأ عيونهم الوقحة.. آه لو أضرب هاتيك الوجوة المنكرة.. اللعنة.. اللعنة على الغزاة. أمنيات صعبة تمزق حنجرته.. لكنها ترد الى العمق مكسورة دون اجابات. ذكريات مؤلمة.. والذكريات هي مغنمه الوحيد في معركة الغزو الغادر.. ورغم ان زمن هذه الذكريات قد مضى.. لكن ذكرياتها المرة مازالت محفورة باقية بتفاصيل أيامها الحمراء بالغضب والصمود.. السوداء بالأحقاد.. الصفراء بالألم.. الرمادية بالعذاب.. لا شيء في مدينته الأبيّة.. مدينة الحب والسلام.. غير الصمت والرعب.. وأهل الصمود الأبطال. يعود.. تلتصق ثيابه بجسده المضطرب.. يتفتت حلقه لقطرة ماء بارد.. لقطرة حب وأمان.. يشعر بلحظة راحة.. يتنفس بعمق.. يخرج بعض الدخان الذي ملأ صدره والمكان.. يلتف حوله أطفاله الصغار.. بضحكاتهم اليانعة.. فرحين به.. فجأة يسمع أصواتا بالخارج.. حافلة تقف.. أحذية تقرقع.. أقدام تقترب.. تتحرك بسرعة. قدمان.. اربع أقدام.. ست أقدام.. ثماني أقدام.. الباب يقرع.. يطرق طرقات عنيفة متواصلة.. ارتال من الجنود.. تسلقوا سور المنزل.. كسروا الباب.. تدافعوا الى الداخل.. انتشروا وسط صالة الجلوس.. يتقدمهم ضابط يصرخ بالجنود: تفتيش.. تفتيش. حلم أسود مخدر يسري في جسمه.. حريق يميد اعماقه بدبيب الحرقة.. الحرقة تتوغل في شرايينه.. لا يستطيع تركيز فكره على شيء.. يتحلقون في شبه دائرة حوله.. يحاصرونه كحصار الجحيم.. تضيق عليه دائرة الحصار.. تضيق.. تضيق.. اجسادهم الطويلة القوية تنقبض وتنبسط.. جدران بيته يحسها وكأنها تنكمش.. تنكمش حتى تلامس جسده. اطفاله يركضون فزعين مذعورين.. يلتصقون مع بعض بأمهم.. عيناه المضطربة تتحولان الى الام والاطفال. ترتسم على الضابط علامة الحيرة والتشفي: انت الكاتب فلان؟ نريدك بعضا من الوقت ثم نعيدك الى بيتك.. تدور به الأرض.. جمر يحرق قلبه.. يحاول ان يستعصي على القهر والخوف بخطوات الثبات.. يسير مع الجنود الذين لا يعرفون سوى لغة القتل والموت والدمار.. تبكي الام.. الدموع الحارة تطفر من عيون الصغار.. الاطفال يصرخون.. ينتحبون.. يحاصرهم الخوف.. بابا.. بابا.. لا تروح.. يذهب معهم.. يحتار.. يحتار ماذا يفعل.. وهو الذي يرى انفصال الذات امامه عن الذات.. ذات تؤثر السلام.. وذات تختار التحدي الصعب. يربطون عينيه بقطعة سواد.. يدخلونه في الجيب العسكري.. تدفعه قوتهم من كلا الجانبين من الامام والخلف اندفاعاً كأنه طرد نحو مجهول هناك هناااااااك. يجلس في السيارة مقرفصاً.. طنين قوي يئن داخل رأسه. تسير السيارة به وسط الرعب.. الموت.. البكاء.. يحس بصمت الشارع.. الشارع خال من المارة.. مهجور.. لا شيء فيه غير نصال الغدر.. ودخان اسود ينفث السموم.. يتنهد بعمق ساهماً.. صامتاً.. مصعوقاً. يتجاهل الحديث معهم.. يغرق في ذاته من جديد.. يفرق في فجيعة وطنه.. لا شيء يفوق الوطن اهمية.. يغرق في مدينته الجميلة التي سرقوا منها الامن والامان.. يغرق في صمود الرجال والنساء الذين ماتوا شهداء.. فداء لارضهم الطاهرة.. الشهادة ولادة جديدة للأرض.. تزين الأرض فيشرق وجهها بالمحبة والانطلاق لعز الوطن.. الشهادة والوطن رفيقان. يغرق بالتفكير في بيته حيث الحب والحنان والعناية والاهتمام.. والشعور بالاستقرار والامان.. بزوجته الصابرة الصامدة.. في عيون اطفاله التي سكنها الرعب.. في انتزاع تراب الوطن الطاهر من سراديب الطغاة.. يذكر التحرير القريب.. يتذكر عبدالله العتيبي فارس القصيدة الوطنية.. واغاني المقاومة وفرحة النصر المبين: غداً تموج البيارق بفيلق كالصواعق تدك ليل الطغاة غداً تعود المواكب كالشمس من كل جانب والملتقى بالصفاة