عندما كنت أقف أمام متجره الصغير , وسط سوق الحي القديم بمدينة الباحة , كان العم " جمعان بن محسن بن عيدان الزهراني " من بلدة قرن ظبي - منهكما مع ثلاثة من الزبائن , الذين كانوا " يفاصلونه " في ثمن " مشعاب " وهو العصا التقليدية المعروفة ذات الطرف على شكل نصف دائرة .. وسمعت العم جمعان يشدد على إن ذلك المشعاب هو ب 200 ريالا - كأخر كلام - ممتدحا إياه بأنه من شجر العُتم " الزيتون " . العم " جمعان " .. اتخذ له متجرا صغيرا , وسط سلسلة من الدكاكين التراثية , والتي تلفت نظر أي زائر , والمبنية من الحجارة والمسقوفة بالخشب على " الطريقة التقليدية " للبناء في منطقة الباحة أيام زمان , وفي مبادرة جميلة من " أمانة الباحة " .. التي أقامت تلك المتاجر , لتكون مظهرا رمزيا يذكر الأجيال الجديدة بماضي الآباء والأجداد , ثم قامت بتأجيرها بمبالغ رمزية . ونعود للزبائن الثلاثة الجالسين إلى العم جمعان .. لقد اشتروا المشعاب أخيرا .. بعد أن تأكدوا من حقيقة جودته , ونقدوه الثمن بكل أريحية . نصف قرن وعندما غادروا المكان , كانوا قد تركوا لي " الجو " لكي أغوص في أعماق ذلك البائع السبعيني , المتحلي بابتسامة وروح مضيافة , والذي بدا في رشاقة لافتة .. ثم راح يتدفق أمامي بحديث ذكرياتي عن قصة رحلته الطويلة مع التراث ... قال : إنني اشتغل بهذا العمل منذ أكثر من 55 عاما , فانا من عشاق التراث , أبيعه وأيضا أصنع جوانب كثيرة منه كما ترى هنا ( وأشار إلى ما تحمله جدران المحل ) . وسألته .. كيف ذلك ؟ أجاب بثقة وهو يستخرج مشعاباً آخر , من ركن متجره الصغير .. قائلا : إن هذا المشعاب ثمنه 400 ريالا .. انه يخلف عن ذلك الذي بعته للتو .. هذا مشعاب منقوش , ولقد استغرق مني نقشه وقتا طويلا , حتى ظهر بهذه الصورة . وعندما استدرت إلى حوائط المتجر , رأيت ثيابا تراثية نسائية ملونة ومطرّزة , وأخرى بيضاء رجالية .. ورحت واقفا أتأملها وأتفحص تطريزها .... العم جمان قال : هذه الثياب أنا الذي خطتها , ثم طرزتها , وهذا الثوب الرجالي يتألف من 44 جنباً , على الأسلوب القديم للثياب قبل أكثر من نصف قرن . وسألته عما إذا كانت الأسعار معقولة ؟ أجابني قائلا : أن سعر هذه الثياب يتراوح بين 400 – 500 ريال , سواء ثياب الرجال أو النساء , وأظن أن هذا الثمن ليس باهظا , مقارنة مع الجهد المبذول لإعدادها , وقيمة التطريز الذي أنفق عليها , وقيمتها الجمالية والتراثية . وأضاف : لدي أيضا سيوف تراثية قديمة معروضة للبيع , واحدها مطعم بالذهب,وسعره 25 ألف ريالا . وعليه عبارة أحبك ياوطني , كنوع من تكريس الوطنية . وسألته مستغربا! هل يمكن أن يوجد في هذه الأيام زبائن لهذا النوع من الثياب ؟ أجاب قائلا : بالعكس , الزبائن أكثر مما تتوقع , سواء من الذين يقتنون الثياب التراثية النسائية أو الرجالية , بما في ذلك الثياب ( أبو جنوب) جمع جنب .. وأضاف : لا زال هناك كثيرون يتهافتون على شراء التراث , وعلى اقتناء الأدوات القديمة , أما للبسها في بعض المناسبات , أو للاحتفاظ بها كرغبة شخصية , أو لإقامة وبناء متاحف صغيرة داخل بيوتهم . وقال : هناك من يرى أن واجبه أن يتعرف أبناؤه وأحفاده على تراث منطقته خصوصا , وتراث المملكة عموما , ولذلك فان أولئك الناس يحرصون على أن يقف الجيل الجديد على أدوات الماضي الجميل , ولهذا فان عشاق التراث إلى ازدياد مع الأيام . دكاكين الحجارة وعندما كنت أودع العم جمعان رحت أتأمل من بعيد , ذلك المبنى الذي تشكّل من محال تجارية تراثية وسط سوق الحي القديم بالباحة, فهو مبني من الحجارة - وسط غابة من الاسمنت المسلح - تماما كما كان أهالي منطقة الباحة ومناطق الجنوب السعودي يبنون بيوتهم قبل سبعين عاما من الآن .. في فكر هندسي فطري عجيب , لفت انتباه الكثيرين بما في ذلك المهندسين , وهو مسقوف بالخشب القادم من البيئة ومن أشجار المنطقة , كما أن أبوابه كذلك مصنوعة من الأخشاب بذات الأسلوب القديم . تراث الباحة وتضم منطقة الباحة العديد من جوانب التراث القديم , فمثلا بالنسبة للأدوات المنزلية هناك العديد من الأدوات القديمة .. مثل : ** الكانون : وهو حامل من الحديد , مربع أو مثلث الشكل أو دائري له قوائم .. وتوضع عليه ( الحلة أو القدر) لطبخ الطعام بينما يوضع الحطب من تحته وتوقد النار . ** الصاج : مصنوع من الحديد أيضا , وله ذراع طويل للامساك به , وهو دائري الشكل تُوضع عليه العجين , لصنع الخبز المعروف محليا باسم (المشّرق) . ** المجرفة : أداة من الحديد مجوفة الشكل ودائرية , وتستخدم لتحميص القهوة على النار , ولها ذراع طويله . ** المهراس : ( الهاون أو الودي ) توضع فيه حبات البن - القهوة - المحمصة لدقها وطحنها وهو مصنوع من النحاس . ** المنخل : وعاء لنخل الطحين والحب وتنقيته من الشوائب . ** التورة : عبارة عن إناء مصنوع من مادة الفخار , يشبه ( القدر ) يصنع فيه الطعام على النار ويتحمل الحرارة ، والوجبة التي تصنع فيه هي ( العيش أو العصيدة) . ** المسوط : خشبة طويلة , وأحيانا يكون لها لها شعبتان في رأسها لتحريك خليط الدقيق مع الماء أو المرق , لصنع العصيدة وتحريكها باستمرار حتى تنضج . ** الشكوة : مصنوعة من الجلد بعد دبغه , وتستعمل لخض الحليب حتى يتحول لبناً , ويتم استخرج الزبدة منه . ** القربة : تصنع من جلود الأغنام , لجلب الماء من الآبار وتختلف أحجامها حسب الحاجة والرغبة . ** الدلو : ومن خلاله يتم استخراج الماء من البئر , وهو مصنوع من الجلد ينتهي بزوائد , مربوطة في حبل طويل , يصل إلى أسفل البئر .