ترجمة - مروى صبري .. بعد كثير من الجدال، وقعت بولندا على مذكرة تفاهم مع الولاياتالمتحدة لتنمية ونشر عناصر نظام دفاع بالستي على أراضيها، ويتمثل الهدف المعلن من وراء المشروع في ردع، وهزيمة إذا لزم الأمر، أي هجوم صاروخي إيراني ضد الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو، فيما تصر روسيا على أن مثل هذا النظام الصاروخي الدفاعي موجه ضدها، وبالتالي فإنه يثير زعزعة استقرار المنطقة . ورأى البعض أن تردد بولندا الواضح تجاه التوقيع على المذكرة يعود إلى خوفها من إثارة سخط موسكو التي توفر الجزء الأكبر من وارداتها من الغاز الطبيعي والتي لا تزال تشكل تهديدا عسكريا لبولندا . لكن بناء على الزيارة التي قمت بها مؤخرا لبولندا والتقيت خلالها بوزيري الدفاع والخارجية وممثلين عن المؤسسة العسكرية، لا أعتقد أن هذا هو السبب الحقيقي وراء الموقف البولندي، وإنما أعتقد أن البولنديين كانوا يتشددون في التفاوض من أجل ضمان الوصول إلى علاقة " أكثر تكافؤا " في ظل مذكرة التفاهم، بمعنى ضمان هذه العلاقة على الصعيد العملي في صورة نقل التقنية والتشارك في العمل في البرنامج والحصول على تنازلات من قبل الولاياتالمتحدة . بيد أنه من غير الواضح ما إذا كانت بولندا قد حصلت على كل ما تبغيه، فالتوقيع على مذكرة التفاهم في هذا التوقيت تحديدا لم يكن من قبيل المصادفة، وإنما يأتي كاستجابة للغزو الروسي لجورجيا، ويعد التوقيع السبيل الذي تعمل بولندا من خلاله على التأكيد أن محاولات موسكو إرهاب جيرانها لن تنجح، وأن بولندا لا تخشى الدب الروسي . في المقابل، تهدد موسكو مرة أخرى بوقف إمدادات الغاز الطبيعي عن بولندا، في الوقت الذي يتحدث فيه جنرالات روسيا عن تداعيات عسكرية بالغة السوء . روسيا والدرع الصاروخية لكن التساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو : هل يحمل النظام المقترح بالفعل أي قدرة حقيقية ضد الصواريخ البالستية الروسية؟ تصر الولاياتالمتحدة وحلف الناتو وبولندا على النفي، بينما الإجابة الأكثر دقة هي " أن الأمر يعتمد على كل حالة على حدة " . وتعتمد مسألة ما إذا كان من الممكن استخدام نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية ضد الصواريخ الروسية القادمة على عدد من العوامل، أهمها موقع ووجهة الرادارات الخاصة بالإنذار المبكر والمراقبة، وتميل مثل هذه الرادارات لأن تكون ضخمة من حيث الحجم ومثبتة بحيث تغطي مساحة معينة . جدير بالذكر أن المنصات التي جرى بناؤها في بولندا من أجل الرادارات موجهة صوب الجنوب الشرقي ( إيران ) ؛ ما يعني أنها غير موجهة بالشكل المناسب الذي يمكنها من رصد الصواريخ الروسية، التي سيأتي معظمها من الشمال الشرقي، لكنه بطبيعة الحال، بمجرد أن تضع منصة للرادار سيصبح من الأسهل بكثير وضع أخرى في الزوايا المناسبة من الأولى بحيث توفر تغطية بزاوية 180 درجة . أما العنصر الثاني الجوهري فيتمثل في قدرات الصواريخ الاعتراضية والرادار المتحكم فيها، وبصورة عامة، كلما بعدت المسافة التي يمكن للرادار رؤيتها، زادت سرعة إطلاق الصاروخ الاعتراضي . يذكر أن نظام الانطلاق الأرضي متوسط المدى الذي من المفترض أن أي نظام دفاع صاروخي أوروبي سيعتمد عليه، مصمم لاعتراض الصواريخ البدائية والبطيئة نسبيا، مثل الكورية الشمالية والصينية، ومن الممكن استخدام هذا النظام أيضا في التصدي للصواريخ الإيرانية المشتقة من النماذج الكورية الشمالية .بينما على الجانب الآخر ما زال الجدال قائما حول مدى قدرة هذه الأنظمة على التصدي للصواريخ البالستية الروسية عابرة القارات، مثل " توبول إم " . ومع ذلك، فإن غالبية الصواريخ التي ستوجهها روسيا إلى جيرانها القريبين منها، مثل بولندا وأوكرانيا وبلغاريا ورومانيا وجورجيا، ستكون من الأنماط قصيرة أو متوسطة المدى؛ نظرا لأن إصابة هذه الدول لا يحتاج إلى الصواريخ البالستية عابرة القارات . يذكر أن نمط الدفاع الصاروخي الجاري نشره في أوروبا الشرقية غير مصمم للتعامل مع هذه الصواريخ البالستية التي يطلق عليها " ميدانية " ، برغم أن رادارات الإنذار المبكر والمراقبة ستشكل بالتأكيد جزءا رئيسيا من أي هيكل دفاعي ميداني . من ناحيتها، قامت الولاياتالمتحدة بتطوير نظام دفاع جوي ميداني عالي الارتفاع وعلى وشك النشر، ويتألف من منصات إطلاق متحركة وأنظمة رادار للتعقب والرصد ومركز قيادة متنقل وصواريخ اعتراضية تعمل بالوقود الصلب . ومن أجل توفير حماية قوية لأوروبا الشرقية ضد التهديدات الصاروخية الروسية والإيرانية، سيتعين على الناتو نشر أنظمة صاروخية طويلة المدى ( إستراتيجية ) وأخرى قصيرة المدى ( ميدانية ) في شكل توجه يعتمد على طبقات متعددة .وبذلك يتضح أن الولاياتالمتحدة والناتو بمقدورهما بالتأكيد تطوير نظام دفاع صاروخي ضد أي تهديدات روسية، لكن حتى الآن لم يحدث ذلك ...ولكن هل ينبغي علينا الاحتفاظ بحق القيام بذلك في ضوء السلوك الروسي الحالي؟ أعتقد أن الإجابة نعم ..في واقع الأمر، تتسم المؤسسة العسكرية الروسية بكونها جوفاء .فرغم ضخامته العددية، يعتمد الجيش الروسي على معدات عفا عليها الدهر ويعاني جنوده من تدني مستوى التدريب .كما يفتقر الجيش إلى قطع الغيار المناسبة والذخائر اللازمة لخوض حرب واسعة النطاق . أما القوات الجوية الروسية فتعاني من أوضاع أكثر تدهورا، ذلك أنها عاجزة عن الاحتفاظ بنسبة كبيرة من طائراتها في وضع الاستعداد، علاوة على افتقارها إلى الدعم اللوجستي اللازم لإمداد الطيارين بوقت الطيران المناسب ( وقد انعكس ذلك على الأداء المتردي للطيارين الروس في جورجيا، حيث بدوا عاجزين عن إصابة أهدافهم ) . أما الأسطول الروسي فمتهالك تماما ولا يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للوضع العسكري بوسط وشرق أوروبا .وحال تفكير روسيا في شن هجوم عسكري تقليدي ضد أي من أوكرانيا أو بولندا، سيتم سحقه بسرعة مثلما فعلت واشنطن مع الجيش العراقي عامي 1991 و2003 .أضف لذلك أن القوات الأوروبية الغربية أفضل بكثير من نظيرتها الروسية بدرجة تقضي على ميزة التفوق العددي الروسي . وفيما يتعلق بالترسانة النووية الروسية، وهي ثاني أكبر ترسانة من نوعها على مستوى العالم، نجد أن قطاعات كبيرة باتت في حالة متردية .ومع ذلك، تبقى هناك أعداد كبيرة من الأنظمة الحديثة التي يمكن استغلالها كرادع دفاعي أو كأداة لإرهاب دول أخرى، وهذه المهمة الثانية تحديدا هي التي تستحوذ على اهتمام موسكو، مثلما يتبين من تصريحات نائب رئيس هيئة الأركان الروسي الجنرال " أناتولي نوجوفتسين " ، حيث هدد بشن هجوم نووي ضد بولندا حال قبولها نشر نظام دفاع صاروخي بها . ومن الواضح أن روسيا ترمي لفك الارتباط بين بولندا وأوكرانيا والدول الأوروبية الشرقية الأخرى عن أوروبا الغربية من خلال تهديدها بالخراب الاقتصادي من ناحية، والدمار الفعلي من ناحية أخرى . وقد سبق أن حاول الاتحاد السوفيتي خوض مغامرة مشابهة في الثمانينيات عندما نشر صواريخ اعتراضية متوسطة المدى من طراز " إس إس " 22 ببولندا وألمانيا الشرقية بحيث أصبحت تهدد هذه الصواريخ جميع العواصم الأوروبية .وكان الهدف من وراء هذا التحرك تفكيك الارتباط بين الولاياتالمتحدة وأعضاء أوروبا بحلف الناتو، وذلك لأن الاتحاد السوفيتي كان بمقدوره على سبيل المثال ضرب لندن من وارسو، بينما لا يمكن للولايات المتحدة الانتقام إلا من خلال نشر أسلحة من داخل الأراضي الأمريكية، ما يسفر عن تفاقم الصراع وتعريض الولاياتالمتحدة بأكملها لخطر الهجوم النووي الروسي . واستجاب الرئيس " ريجان " بحكمة من خلال نشر صواريخ بالستية طراز " بيرشينج " 2 وصواريخ " توماهوك " منطلقة برا في بريطانيا وألمانيا باعتبارها قوة نووية أمريكية وسطى، وبالتالي استعاد التكافؤ على صعيد الردع .وبطبيعة الحال، تراجع السوفيت في نهاية الأمر .وبعد ذلك تمكن الطرفان من التفاوض بشأن أول اتفاق للسيطرة على الأسلحة النووية . والآن، تحتاج الولاياتالمتحدة إلى اتباع نهج مشابه من خلال إقرار " قدرات ردع على نطاق واسع " ، وتوضيح أنها لن تقبل بشن هجمات ضد أو تهدد الدول الحليفة لها . على الصعيد السياسي - الدبلوماسي، من شأن منح كل من جورجيا وأوكرانيا توصيل إشارات واضحة على أن الردع الأمريكي يمتد حتى الحدود الروسية . وأعتقد أن تصرفات موسكو مع جورجيا ستدفع فنلندا لطلب الحصول على عضوية الناتو في المستقبل القريب، ومن المحتمل بدرجة كبيرة أنه حال إقدام فنلندا على اتخاذ هذه الخطوة، ستحذو السويد حذوها .وفي النهاية، ستسفر تصرفات موسكو عن تركها في حالة من العزلة والحصار أكثر من أي وقت مضى .في هذه الحالة، من المحتمل أن تلجأ روسيا بصورة متنامية إلى تكتيكات الاستئساد لإعادة التأكيد على نفوذها .ومن أجل الحيلولة دون ذلك، ينبغي أن يضم الردع واسع النطاق بعدين، عسكري وغير عسكري . على الصعيد العسكري، وعلى النقيض مما كان عليه الحال في الثمانينيات، يجب أن تدخل عناصر هجومية ( انتقامية ) وأخرى دفاعية، ويجب أيضا أن تمتد إلى ما وراء القوى التقليدية والنووية بحيث تغطي عددا من التهديدات غير المتكافئة، بما في ذلك الإرهاب وحركات التمرد والحروب الاقتصادية . اليوم، بات الردع يعني أكثر من مجرد التمتع بقدرة نووية انتقامية فاعلة، ما يطلق عليه البعض الردع الهجومي، وإنما بات من الضروري أيضا التمتع ب " الردع الدفاعي " الذي يرمي لتعظيم صعوبة تحقيق العدو لأهدافه بصورة بالغة لا يمكنه التغلب عليها وفي هذه الحالة، ستشكل المظلة المضادة للصواريخ التي تغطي كل أوروبا الشرقية جزءا لا يتجزأ من مثل هذا الردع الدفاعي واسع النطاق، وكذلك الحال مع نظام دفاع مدني نشط . وبرغم أن روسيا بالطبع ستبقى متمتعة بأسلحة نووية كافية لتدمير النظام الدفاعي الصاروخي المقترح، فإن النظام في حد ذاته سيمثل التزاما من جانب الولاياتالمتحدة وحلف الناتو بأمن أوروبا الشرقية ومن شأن هذا الأمر زيادة صعوبة إقدام روسيا على الاستئساد ضد دول مثل بولندا وأوكرانيا وجورجيا، الأمر الذي سيشجع بدوره هذه الدول على التصدي لجارتهم العدوانية . ومن أجل التعامل مع التهديدات العسكرية غير المتكافئة، مثل حركات التمرد والإرهاب والأنماط المختلفة للحروب بالوكالة، يتعين على واشنطن وحلف الناتو تنمية عقيدة وقدرات لخوض الحروب ضئيلة الحدة، وتوفير المساعدات العسكرية المناسبة لنقل هذه القدرات إلى أصدقائهم داخل أوروبا الشرقية ومن الواضح أن جزءًا من المشكلة القائمة داخل جورجيا اليوم نابع من عجز المؤسسة العسكرية عن التكيف مع الحركات الانفصالية المتمردة .وعلينا العمل على ضمان عدم تكرار حدوث ذلك في جورجيا أو غيرها من الدول . خبير إستراتيجي وعسكري أمريكي، متخصص